تنص القاعدة الذهبية في علم الجريمة على أنه عند حدوث جريمة، ما عليك سوى التفتيش عن المستفيد من ارتكابها، حتى تصل إلى الجاني، وهذا ما سنطبقه حرفيًا على العملية الإرهابية التي استهدفت مركزًا للتسوق بضواحي العاصمة الروسية موسكو، أمس الجمعة وأودت بحياة العشرات من رواده، بخلاف المصابين الذين تجاوز عددهم مائة شخص.
إن القراءة الأولية لوقائع هجوم "كروكوس" الدامي تشير إلى أن التخطيط له تم بعناية فائقة، حيث تم استهداف مكان مكتظ بالناس، ويقع على أطراف موسكو، واختيار توقيت التنفيذ مساء لإيقاع أكبر عدد ممكن من الضحايا الأبرياء، وإيصال رسالة مخضبة بالدماء لرجل الكرملين القوي والمشاكس "فلاديمير بوتين"، الذى أعيد انتخابه قبل أربعة أيام لولاية رئاسية خامسة، وفحواها أنه لن ينعم بالهدوء والسكينة.
فتدبير عملية كهذه بكل تفاصيلها وتجهيزاتها المعقدة، وإدخال الأسلحة وغيرها من الأمور، تكاد تجزم بأنها من تخطيط جهاز مخابراتي تولى الإشراف على تنفيذها عبر وسطاء، أو قل واجهة تبدو للعيان أنها طرف في خصومة حادة مع روسيا وزعيمها الذي ينزعج الغرب والولايات المتحدة من بقائه بالسلطة ومناوئته للهيمنة الأمريكية على النظام الدولي.
هنا نحن أمام جهة وربما عدة جهات أمريكية وغربية مستفيدة من اضطراب الجبهة الداخلية الروسية وإثارة القلاقل داخلها، وذلك كجزء من أدبيات الصراع الشرس الدائر حول مَن يحق له تغيير قواعد اللعبة على الساحة الدولية، وإقصاء المنافسين المؤهلين لمناطحة ومزاحمة "العم سام" على زعامة العالم، ويتصدرهم طبعًا روسيا والصين اللذان يرتبطان بعلاقات وثيقة ويزداد تعاونهما وتنسيقهما المشترك سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، فضلا عن أن موسكو نجحت في إزاحة أمريكا من نقاط نفوذ تاريخية لها، لا سيما بالقارة الأفريقية، وحلت مكانها، وذاك أغضب كثيرًا صناع القرار الأمريكي واستفزهم.
كما لا تنسى أن مراهنة الغربيين على أن الحرب في أوكرانيا التي لعبوا دورًا كبيرًا في التحريض عليها وإشعالها، لم يحصدوا الثمار المرجوة والمنتظرة منها، ولم تتحول لنسخة حديثة من المستنقع الأفغاني الذي عجل بانهيار الاتحاد السوفيتي السابق، فما جرى كان على عكس التوقعات الغربية، فالجيش الأوكراني يتلقى هزيمة تلو الأخرى، ويقفد مناطق سيطرته بوتيرة متسارعة، وغير قادر على حسم المعركة في ميدان القتال.
اسمع البعض يهمس بأن تنظيم "داعش خراسان" الإرهابي أعلن رسميًا مسئوليته عن غزوة "كوركوس"، وبدا إعلانه منطقيًا بحكم اعتياده طوال العامين الماضيين على مهاجمة بوتين واتهامه بالعمل على اضطهاد المسلمين، وأن عناصر من جمهوريات آسيا الوسطى يقاتلون بصفوفه بغرض الانتقام مما يفعله الروس بعائلاتهم وقراهم.
لا خلاف على أن المبررات منطقية ولا يشوبها شائبة، لكن الواقع يؤكد أن "داعش خراسان" ليس بالقوة الكافية للقيام بمثل هذه العملية، وأنه يركز أنشطته وعملياته الإجرامية على أفغانستان حيث يتمركز، وأن ما يشغله توسيع نطاق تواجده وانتشاره بين الأفغان على أمل كسر شوكة ألد أعداء التنظيم، متمثلا في حركة "طالبان" التي مكنتها واشنطن من الوصول إلي سدة الحكم عقب سحبها قواتها من الأراضي الأفغانية.
وقد يكون تبني "داعش خراسان" الزائف لعملية "كوركوس"محاولة دعائية من جهتها لكسب مزيد من المتعاطفين والمقاتلين الذين سيبهرهم قدرتها على توجيه ضربة موجعة مثل هذه للدب الروسي، وبالتأكيد فإن الكثير من محبي ومدمني المغامرة سيجدون في التنظيم خير وسيلة لتحقيق أحلامهم وخيالاتهم في الترحال وحمل السلاح بزعم نصرة الدين والمستضعفين من المسلمين ببقاع الأرض.
على كل فإن الفترة القادمة ستكون حبلى بسيناريوهات عديدة بشأن كيفية رد بوتين على هجوم "كوركوس" وكشف المتورطين الحقيقيين خلفه، وهو ما قد يجر عالمنا البائس لمهاترات واحتكاكات تفجر حربًا عالمية سوف تتسبب في كوارث وفواجع لا حدود لها، لذلك فإن البحث عن المستفيدين كفيل بوضع يدنا على الفاعل الحقيقي وليس المزيف لجريمة "كوركوس" الفظيعة.