ليلة غربة في حي الكوربة

17-3-2024 | 16:42

هي قصة أو موقف عارض يمكن أن يمر بنا جميعًا أو لنقل بأغلبنا؛ فنحن عندما نبلغ مرحلة عمرية متقدمة بعض الشيء نبدأ تدريجيًا في التراجع والانسحاب، نرفض الخروج من المنزل إلا في حالات الضرورة القصوى، لأننا أصبحنا بكل صدق لا نحتمل كل ذلك الجهد وكل تلك المعاناة، فالطرق المزدحمة تحتاج كفاحًا، والأرصفة العالية تحتاج جهادًا، والصخب الذي بلغ حدوده حتى وصل منتهاه يحتاج دروعًا تقينا شرور سهامه التي تجعلنا في بعض الأحيان نحسد الأصم على هدوء عالمه وسكون دنياه. 

بعد إلحاح شديد من أبنائي وافقت على الخروج معهم بعد أن تناولنا طعام الإفطار، وقصدنا منطقة الكوربة في حي مصر الجديدة، كثيرًا ما ذهبت  إليها من قبل، لكن هذه المرة كانت الأولى التي أذهب فيها إليها في إحدى ليالي شهر رمضان، المنطقة بها العديد من المقاهي والكافيهات التي ازدحمت بروادها من الشبان والشابات، نظرت إلى الشارع من بعيد وتوقعت أن هذا المشهد الذي أراه لن يناسبني، لفت هذا انتباه أبنائي، فسارعت ابنتي باختيار مكان آخر يقع في شارع جانبي هادئ إلى حد ما، انتظرت مني تعليقًا على اختيارها لهذا المكان، فقلت: "هنا أرحم بكتير يا بنتي" فابتسمت وكأني قد كافأتها برد فعلي الذي شجعها على التأكد من حسن تصرفها وطيب صنيعها. 

جلسا إلى جواري يتحدثان عن فائدة الخروج من المنزل، وأثره على الحالة النفسية وتحسين المزاج، وأنا أعلم هذا بالطبع ومقتنعة به تمام الاقتناع، لكنهما لا يدركان معنى التقدم في العمر، لا يرونه أو يحسونه كما أراه أنا وأعيش تفاصيله ومعناه، جلستُ أتناول مشروبًا ساخنًا فالليلة كانت باردة على الرغم من ارتفاع درجة حرارة الجو في أغلب ساعات النهار، وبرغم هدوء المكان ورقيه إلا أنني لاحظت أشياءً غريبة، لم اعتد رؤيتها فهي مشاهد جديدة لا تشبهنا ولا تتناسب مع قيمنا وأعرافنا وأحكام ديننا، فالتحرر الزائد الذي كان مصاحبًا لأغلب تصرفات هؤلاء الشبان والشابات جعلني أتعجب كثيرًا، فهم أتوا بكل هذه الأفعال دون حرج، دون خجل ودون حياء، شعرت بإحساس الغربة يدب بداخلي للحظات، ورحت أتساءل بيني وبين نفسي: أي جرأة تلك؟ وأي خلق هذا الذي استطاع أن يجسد المعنى الحقيقي للانفلات؟  

قضينا بعض الوقت في هذا المكان، تحدثنا سويًا عما نراه من حولنا، وأغلب الجمل التي نطقت بها كانت تلك الجملة التي كنت أرددها كالأطفال: "ياللا بينا نروح بقى" وأنا لا أدري بأن الضجيج الحقيقي كان ينتظرني خارج المكان، سرنا سويًا باحثين عن ملامح لأجواء شهر رمضان، فالزينة والفوانيس تملأ الشوارع والطرقات، لكنها تشبه الفرق بين الزهور الطبيعية والصناعية، تختلف في المعنى، في الروح والإحساس. 

وكلما التمست بعضًا من الهدوء والسلام النفسي وتمكنت من التحكم بثباتي الانفعالي وسط هذا الزحام، قاطعني وابل جديد من الألعاب النارية المسماة بصواريخ رمضان، انفجارات آتية من كل مكان تبعث الفزع وتبثه بثًا في نفوس المارة دون اعتبار لسن أو مقام، أدركت لحظتها أن خللًا ما قد حدث، وأن الخروج من الدار كما قالوا قديمًا قد يقلل من القدر والمقدار.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة