حارب المسلمون كثيرًا في شهر رمضان المبارك، لكن ما يجري في قطاع غزة ليست حربًا من ناحية التكافؤ المنعدم أو فرص الصمود، فشعب أعزل لا يمكنه مواجهة قوة غاشمة في حرب مفتوحة، فضلا عن عدم أخلاقيتها ومخاصمتها قوانين الحرب، ورغم الفجوة بين إسرائيل وفصائل المقاومة في التسليح والأفراد والآلة الإعلامية والاستقطاب الدولي، فإن إسرائيل لم تكن لتمضي أبعد مدمرة البشر والحجر، مستغنية عن رغبتها في حياة طبيعية مع جيرانها، لولا الدعم الأمريكي الكاسح وغير المشروط.
والتوصل إلى هدنة في غزة في شهر رمضان ينتظرها سكان القطاع، ويأمل معها في الغوث، لا يجب أن تغطي على حقائق عدة قدمتها الحرب، في مقدمتها أن إسرائيل لا تكترث ولا تقدم تنازلات، ولم تعد تشغلها المبادئ القديمة التي شكلت افتتاحية مقبولة لمبادرات السلام، مثل "الأرض مقابل السلام"، لأنها باتت أقرب إلى فرض مفهومها للسلام، وهو يتمحور حول السلام في مقابل السلام، أو السلام مقابل العيش المذل.
لم تكن إسرائيل بترسانتها الضخمة في حاجة إلى جسر أمريكي بأوامر تنفيذية من الإدارة، رصد محتوياته تقرير أخير لصحيفة "واشنطن بوست"، أكثر من مائة صفقة مبيعات سلاح، تم تسليمها بالكامل منذ بدء الحرب، ومساعدات مالية فورية بموافقة مجلس النواب تجاوزت 14 مليار دولار، وحاملتي طائرات إلى البحر المتوسط، وأرسلت بريطانيا سفينتين وطائرات استطلاع، وإلى آخر ما نعرفه من وسائل النجدة التي تدفقت ورسائل الدعم السياسي التي تعددت. إنهما طرفا حرب، اسرائيل وحماس، ولكن هناك الطرف الإسرائيلي وتغدق عليه الولايات المتحدة وحلفاؤها الأقوياء في العالم، والطرف الآخر فإن أقصى ما يتلقاه زجاجة ماء وقطعة خبز وعلبة دواء تحت القصف لمن استطاع إليه سبيلا.
ورغم الحقائق الدامغة، والكذب حول قطع رقاب أطفال واغتصاب نساء ومحاولة ممنهجة لتدمير أونروا (وكالة غوث وتشغيل اللاجئين) بادعاءات مفبركة، فإن قلة وضعف الحيلة تبقيان على التعلق العربي الإسلامي بالدور الأمريكي. هذا الرهان الذي انكشف خسرانه منذ البداية، فأمريكا استخدمت حق النقض (فيتو) لمرات ثلاث لمنع قرار يطالب بوقف فوري لإطلاق النار.
كما أن ما يشار إليه باعتباره خلافًا أو غضبًا أو ضغطًا من سيد البيت الأبيض على رئيس الحكومة الإسرائيلية نيتانياهو يستهدف فقط إقناعه بتيسير التوصل إلى هدنة في قطاع غزة، وأخيرًا فإن واشنطن تنسق بعد سلسلة من إسقاط المعونات جوًا من دول عدة، لتجهيز ميناء بحري في غزة. وإسقاط الأطعمة جوًا قد يجد ما يبرره في سفوح الجبال والدروب السرية والكهوف عند غزو أفغانستان، ورحم الله الفنان مصطفى حسين في كاريكاتير لا أنساه في الصفحة الأخيرة من جريدة الأخبار، حيث ألقت طائرات أمريكية سندويتشات هامبورجر على المجاهدين في جبال تورا بورا، فأمسك أحدهم بها، ونادى على الطائرة البعيدة: "فين الكاتشاب يا كفرة".
أما سكان غزة ففي أرض سهلة ويوجد في الجنوب معبر رفح البري الذي لم تغلقه مصر في السنوات الأخيرة، وعراقيل إسرائيل لدخول المساعدات من خلاله، وشن حملة ظالمة على "أونروا" لشل يدها في غزة، والوكالة واحدة من الوسائل والآليات الناجحة في الأراضي المحتلة بسبب خبرتها الطويلة بهذا العمل الإنساني، وربما كل هذا التخطيط ليبدو إسقاط المساعدات جوًا، وكأنه عمل إنساني دفعت إليه الولايات المتحدة ووافقت عليه إسرائيل ولم تتعرض للطائرات المنفذة بوازع من ضمير إسرائيل.
هذا الدجل لا ينطلي على العالم الذي يواصل احتجاجه ضد الحرب، لكنه قد يريح ضمير الإدارة الأمريكية وتوابعها من الحلفاء، لينعم بالراحة والطمأنينة؛ لأنه لم يدخر جهدًا لإنقاذ سكان غزة. يتصل بذلك مشروع الميناء للمساعدات الإغاثية التي ستكون قادمة من قبرص عبر "ممر بحري" شريطة أن تتعرض لتفتيش من قبل إسرائيل.
كما لا تفتأ الإدارة الأمريكية تتحدث عن حل الدولتين باعتباره ينهي الصراع بشكل تام، وهو الحل المنطقي والذي تؤيده المنطقة والعالم، لكن لم تقل لنا واشنطن كيف يمكن تنفيذ هذا الوهم من دون موافقة إسرائيل.
المسألة في منتهى الوضوح، ولا تقدم عليها الولايات المتحدة وحلفاؤها، وتتمثل في الوقف الفوري لإطلاق النار، وخروج إسرائيل من غزة، وإدخال المساعدات في الساعة التالية عبر معبر رفح البري، وبدء عملية دولية لإعادة إعمار غزة، أما حل الدولتين فإسرائيل لا تحتاج إلى اعتراف، بينما الدولة الفلسطينية يمكن أن تحصل على الاعتراف إذا ما قررت واشنطن بالفعل وليس بالنوايا الخادعة، وأن يتم هذا الأمر من خلال آلية أممية تعيد الاعتبار للأمم المتحدة والتي أهانتها واشنطن وحلفاؤها طوال أكثر من 150 يومًا من الحرب على غزة.
إن التركيز على التوصل إلى هدنة لستة أسابيع يصور المحاولات الجارية لتحقيقها، وكأن الهدنة تشكل الأمل الوحيد والنهائي لسكان غزة، وأنه من الواجب ساعتئذ توجيه الشكر للحكومة الإسرائيلية، بينما يجب أن نتنبه إلى أن الهدنة هي النقطة الأولى في لائحة ضخمة، تشمل إدانة إسرائيل بسبب جرائم الحرب، وتعويضات لضحاياها.