كما تفعل التغيرات المناخية، وتحولاتها الطبيعية، فرض الاقتصاد الدوار، أو "الاقتصاد الدائري – circular economy" آلياته على الكوكب وساكنيه، ليطل علينا منذ أكثر من 10 سنوات، ليحل بديلا ضروريا عن الاقتصاد التقليدي، الذي لا شيء يهمه سوى الإنتاج فقط، دون أية اعتبارات للبعد البيئي، فكان عنوانا للتلوث والاستهلاك المسرف في الموارد واستخدام خامات الكوكب، المحدودة في الأساس، بلا حساب.
الفرق بين الاقتصاد التقليدي المنفلت غير المنظم في استهلاك الموارد، وبين الاقتصاد الدوار، فإن الأخير يضع حدًا لحالة العشوائية في استهلاك الموارد، ليصبح اقتصادًا متجددًا لليوم والغد معًا، فلم يعد الكوكب وموارده، تتحمل كثيرًا آداء الاقتصاد التقليدي غير المستدام، كما أنه يدمج النشاط الاقتصادي بالبعد البيئي بطريقة مستدامة، معتمدًا على المدخلات المتجددة، والاستخدام الرشيد للخامات، واسترجاع النفايات الناتجة عن عمليات الإنتاج.
عندما بدأ تطبيق الاقتصاد الدوار في أوروبا عام 2013، شهدت دولها تحولا في الثقافة الإنتاجية هناك، فلم يكن الهدف هو الربح فقط والوصول إلى المزيد من الرفاهية، ولكنه كان تحولا فرضه الواقع، ليصبح ضروريا تطلب تغيرا في السلوك، يحقق العديد من النتائج الايجابية، ليصبح الحد من الهدر واستخدام الموارد بكفاءة أكبر، في وقت بدأت فيه ظاهرة شح الموارد وتناقص الخامات، إضافة إلى انتشار مظاهر التلوث البيئي الناتجة عن عمليات التصنيع، لتبدأ القارة في حقبة التحول نحو تداول المواد الخام في عملية الإنتاج بإعادة استعمالها وإصلاحها وإعادة تدويرها، ما يزيد من كفاءتها وعمرها التشغيلي، فضلا عن استرجاع النفايات الناتجة عن عمليات التصنيع وخطوط الانتاج.
هذه الثقافة الانتاجية التي تنتشر في أوروبا، انتقلت مؤخرا إلى المجتمع الصناعي والانتاجي المصري، ولأهميتها، خصص لها مكتب الالتزام البيئي والتنمية المستدامة باتحاد الصناعات، بالتعاون مع جمعية كتاب البيئة والتنمية ورشة عمل، بمقره وسط القاهرة الأسبوع الماضي، عنوانها "الاقتصاد الدوار و أسواق الكربون"، حيث يرى المدير التنفيذي للمكتب المهندس أحمد كمال، أن الاقتصاد الدوار هو خطوة مهمة على طريق الاستدامة، باعتباره يعد الوجه الآخر لظاهرة تغير المناخ، فهو لا يشكل تحديا فقط، ولكنه فرصة لبناء نموذج اقتصادي نظيف متكامل غير نمطي، واضعا في اعتباره نسيجا من العناصر الثلاث: الاقتصادي والبيئي والاجتماعي، وهو الاقتصاد الدوار.
أيضًا، حملت توجهات وتوصيات سلسلة مؤتمرات "COP’S" الأممية المتوالية، ضرورة تبني وتطبيق نظم "الاقتصاد الأخضر" وفي جوهره "الاقتصاد الدوار"، وتوالت محاولات دول العالم خفض انبعاثات الكربون ومكافحة التغيرات المناخية، كما أطلقت دول عديدة مبادرات تعزز مفهوم الاقتصاد الدوار من خلال إعادة الاستخدام وزيادة الاستفادة من المواد والنفايات المهدرة من صناعات مختلفة وإدارتها على النحو الأمثل، وهو ما يستهدفه مكتب الالتزام البيئى، فقد حرص، قبل أن يمد يد العون للتعاون مع المصانع المختلفة لدعم فكرة الاقتصاد الدائري، يإحاطة الإعلام المتخصص عبر ورشة العمل، وتهدف لدعم وتوحيد الجهود وتعزيز التعاون نحو التنمية المستدامة الرشيدة للمخلفات الصناعية، ونشر الوعي بمفهوم الاقتصاد الدوار، الذي هو في الأساس الاقتصاد الأخضر، أحد ركائز "رؤية مصر نحو إستراتيجية التنمية المستدامة 2030".
ورشة العمل هي مبادرة جادة لنشر الثقافة الصناعية الجديدة، والترويج لسلوكيات إنتاج مستقبلية، في محيط كوكب تتعدد أطرافه، ويتسارع إيقاع أحداثه، ما يتطلب المزيد من هذا النوع المتخصص من الفعاليات لنشر المزيد من الوعي حول الاقتصاد الأخضر النظيف، لكل الأطراف، الجانب الرسمي والأهلي، والقطاع الخاص، ولعل الحكومة تكثف من عمليات إدخال مفهوم الاقتصاد الدوار والأنشطة المتصلة به في الإستراتيجيات والخطط القومية ..ولماذا نذهب بعيدا، فقد حرص "الدستور 2014"، على أبعاد التنمية المستدامة وركائزها الثلاث "الاقتصادية والبيئية والاجتماعية"، لتعالج الاقتصاد الدوار بشكل مباشر في قطاعات مثل إدارة النفايات الصلبة والصناعة والزراعة، وهذا يجعلنا ننتبه إلى التنافسية في الأسواق الأوروبية، التي تعتمد دولها "الصفقة الأوروبية الخضراء" بوضع مخطط لهذا التغيير التحويلي وتحويل الاتحاد الأوروبي إلى أول قارة محايدة مناخيًا بحلول عام 2050، وهذا يترجم إلى برامج وصفقات الصادرات إلى دول الاتحاد الـ27، وهي مهمة مكتب الالتزام البيئي باتحاد الصناعات، لتوفير سبل قبول السلع المصرية إلى المنافذ والأسواق العالمية.
خبيرة التنمية المستدامة ومنسقة قطاع الطاقة المتجددة بالمكتب، المهندسة نها البلكي، اهتمت بمفهوم الاقتصاد الدوار عبر الخدمات المتكاملة، فالنشاط هنا ليس مرحلة تصنيعية أو إنتاجية محددة، ولكنه في الاقتصاد الدوار، يقدم خدمة متكاملة، تبدأ من تصميم المنتجات والخدمات على أسس دورة حياة المنتج من مرحلة التصميم، وتحسين العمليات لتقليل النفايات واستخدام الموارد المتجددة، وتقديم خدمات تحقق الرفاهية مع تقليل الاستهلاك، فما يدفعه العميل يكون مقابل فوائد المنتج وليس ملكيته، ويتحقق بوضوح في مجال النقل والمواصلات، من خلال إنشاء منصات توزيع ومشاركة المنتجات "التأجير والاستئجار"، تمكن المستخدمين من تأجير البضائع وتبادلها أو استعارتها، وهو ما يقلل تكلفة شراء ونقل المعدات والمواد الخام.
ماذا عن "البصمة الكربونية" وإصدار سندات الكربون، وهو الجانب الآخر من ورشة العمل، فهو حديث الأسبوع المقبل، إن شاء الله.
[email protected]