الطريق إلى التنوير

5-3-2024 | 20:17

كان لبعثات محمد علي التعليمية إلى أوروبا دور بارز في التحديث الذي وقع في عهده، ومن ثم فيما تلاه من حكم أبنائه، خصوصا في عصر إسماعيل. ورغم انتقادات واسعة لما أسرف فيه الخديو الطموح، إلا أن المصريين كانوا يتابعون ما يجري، من شق قناة السويس، ومشروعات عهد اسماعيل، وعمائره. حتى وقعت الصدمة العرابية، وتلك خضعت لأحكام واجتهادات شتى، ومن بعدها جاء المحتل الانجليزي. وكان ذلك الاحتلال إيذانا لبدء عهد التنوير في مصر، ليس بسبب أفضال الاحتلال وإنما بهدف مقاومته وطرده.

تلك المقاومة هي الإجابة الصحيحة عن سؤال التنوير، وكل الاسئلة عن بعث النهضة وإحياء التراث وتجديده وبلورة فكرة الوطن، وبدأ تفجر الثورات والانتفاضات المحدودة، ثم كان الاكتساح الهائل لثورة 1919. كل تلك الأحداث والوقائع السياسية التي أفرزت اليقظة الوطنية المصرية كان لها ظهير معرفي وثقافي وفني أنتجه من اتفقنا على تسميتهم برواد التنوير.

 ماذا فعل التنويريون في ظل التطورات السياسية.. لقد نشطوا في تأسيس جامعة مدنية أهلية هي الجامعة المصرية التي التي اندمجت وتحولت إلى جامعة حكومية، جامعة فؤاد الأول.. خريجو تلك الجامعة والعائدون من البعثات، والمثقفون من غير أولئك وهؤلاء، ومنهم من ليسوا بمصريين وإنما عاشوا بيننا مثل جرجي زيدان وبشارة وسليم تقلا، كل هؤلاء نشطوا لإحياء التراث الديني والثقافي وتطوير حركة النشر من كتب وصحف ومسرح وتعليم. وفي ظني أنهم قرروا كل في مجاله أو سألوا أنفسهم عن الفجوة الحضارية بين الشرق والغرب، وفي ظني أيضا أنهم قرروا سدها إلى الأبد.

ولنعدد كما تشاء لنا الذاكرة الأسماء البراقة في تلك الفترة من بدايات القرن الماضي، ولنلاحظ الحماسة المضفرة بالإبداع في الصحافة والموسيقي والشعر والرواية والنحت والمسرح والسينما والغناء وبث الجمعيات المتنوعة في أرجاء مصر وإشراك الشعب عن طريق الاكتتاب في المشروعات الكبرى. وربما فجرت الاكتشافات الأثرية في ذلك الوقت الإحساس بالعظمة الغابرة وإقبال الكتاب على إحياء التاريخ والمعرفة والوعي به ومن ثم إدراكه لدي العامة والخاصة. 

وكثيرا ما يطرح البعض السؤال عن غياب أسماء مثل تلك التي زينت النصف الأول من القرن العشرين، مثل شوقي وحافظ وطه حسين والعقاد والحكيم وأحمد رامي ونجيب محفوظ وغيرهم؛ لأن هؤلاء لم يقدموا إبداعاتهم بقرار ملكي أو حكومي وإنما كانوا نتاج فترة زمنية استثنائية استهدف المصريون فيها الاستقلال الوطني، واللحاق بالغرب المتقدم، وإزالة الغبار المتراكم فوق تاريخهم.

وعندما قامت ثورة 23 يوليو وحصل الاستقلال الكامل شهدت الخمسينيات والستينيات نتاجات رواد ومبدعين حفروا أسماءهم في جدار صلب، منهم من كان ينشر لأول مرة، ومنهم من أثرى الإبداع بدماء جديدة، وربما هذا يفسر إحياء الشعر، وتجديد الفكر، وسطوة الإبداع الموسيقي والغنائي، وتساؤلات الروايات الأولى، والاحتفاء بالنحت، ودعوات تحرير المرأة، ووطنية الاقتصاد. 

كما أن بوسعه أن يفسر لماذا بدأ محفوظ مشروعه الأدبي بالفرعونيات والذي ألف فيه ثلاث روايات، وكان يستهدف استكمال تاريخ مصر كله روائيا.

وأخيرا لفت مدير مكتبة الاسكندرية د. أحمد زايد عندما وقف في شقة محفوظ لاستلام مكتبته الخاصة المهداة من كريمته أم كلثوم إلى أن "عظمة أدب نجيب محفوظ تتبدى في أن أعماله تجعلنا أكثر وعيًا بالتاريخ، وبأنفسنا، وبهويتنا المصرية".

ويبدو أن ظهور عظماء الكتاب في فترات حاسمة من تاريخ بلدانهم ليس شأنًا مصريًا، وإنما حدث في بلدان كثيرة. وفي كتاب "التعريف بشكسبير" لعباس محمود العقاد (إصدار جامعة الدول العربية ودار المعارف) شرح لنا العقاد لماذا تميز شكسبير وأدباء زمانه عند نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر الميلادي. 

كتب العقاد: "وقد حدث هذا في تلك الفترة خاصة؛ لأنها كانت فترة تاريخية تهم التاريخ وتهتم بالتاريخ. إذ هي فترة اليقظة الوطنية في الجزر البريطانية، بلغت حماسة القوم فيها لتاريخهم ومعالم حياتهم الغابرة والحاضرة غايتها على أثر الشعور بالخطر من جانب الدول الكبرى في القارة، وأعظمها يومئذ إسبانيا وفرنسا، وزادهم النصر حماسة على حماسة فنشطوا لإحياء تراثهم الغابر على علاته، وأقبلوا على كتابة التاريخ وجمع اسانيده وتمثيل مشاهده، إقبالا لم يكن معهودًا بينهم قبل ذلك، ولعلهم لم يعهدوا له نظيرًا بعد القرن السابع عشر إلى القرن العشرين".

ربما يجد البعض أمر ميلاد رواد جدد عصيًا الآن بسبب الأمية والتشدد باسم الدين وانغلاق الأفق السياسي، بينما كان هذا الحال سائدًا في مصر، عندما كتب وأبدع رواد عصر التنوير. 

وفي تصوري أن هناك إمكانية لظهور وتحقق رواد جدد من خلال منظومة إدارية متكاملة تساهم فيها وزارتا التعليم العالي والثقافة، ومؤسسات الصحافة والإعلام، وتدخل الدولة في الإنتاج السينمائي، والاهتمام بالبعثات.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة