بالقرب من مدينة دمنهور، عاصمة محافظة البحيرة، عثر بعض السكان على كنز ضخم جدًا من المسكوكات الفضية، كان ذلك في عام ١٩٠٥م، حينما خرجت إلى النور أكثر من ٨٠٠٠ مسكوكة فضية من فئة "تتراداخم"، ضُربت غالبيتها في حياة الإسكندر الأكبر بمختلف المدن التي غزاها خلال حملته التاريخية على الشرق، ويؤسفني القول أن المعلومات المُتاحة عن قصة هذا الكنز قبل خروجه من مصر تكاد تكون معدومة، فقط نعلم مكانًا تقريبيًا لاستخراجه، لكننا لا نعلم من وجده، ولا كيف استخرجه، ولا لمن باعه، ولا من هربه لخارج مصر.
موضوعات مقترحة
تبدأ معلوماتنا عن كنز دمنهور حين قامت الجمعية الأمريكية للمسكوكات بتوثيق قطعه على مرحلتين بالتعاون مع متحف أشموليان، ثم توالت الأبحاث العلمية التي اعتمدت على نماذج من هذا الكنز الهام، والحقيقة أن المُثير في كنز دمنهور - الذي حصل على رقم IGCH1664 - هو ذاك التنوع الكبير في مُدن السك، فلدينا حوالي ٣٠ مدينة ممثلة في هذا الكنز، كل مدينة لها رموزها وعلامتها رغم تشابه التصميم العام؛ بالاضافة لعدد كبير من القطع مجهولة المدينة، وبالتالي فنحن بصدد أكثر من ١٣٧ كيلو جرام من الفضة المسكوكة التي جُمعت من مشارق الأرض و مغاربها، ثم استقرت في باطن الأرض بدمنهور لمدة تزيد عن ٢٣٠٠ سنة قبل أن يخرجها أحدهم وتعاود شتاتها لمغارب الأرض ومشارقها.
التوزيع الجغرافي لمدن السك لعملات كنز دمنهور الأثري
سنحاول هنا تحليل كنز دمنهور من خلال ملاحظات مختصرة، وذلك اعتمادًا على المعلومات المتاحة لدينا، على أمل أن نتمكن من رسم صورة عامة لطبيعة هذا الكنز وحكايته الأولى حين جمع إنسان ما كل تلك الثروة – أو ربما سرقها – وهلك هو فالنهاية و بقيت نقوده لتحكي لنا نزرًا يسيرًا عن سيرة الأقدمين وطبائعهم، و الحكاية هنا لا تخلو من دماء سالت وصنعة أُتقنت وفن ازدهر وثقافات حلت محل أخرى وإمبراطوريات رسمت حدودها بحد السيف.
بدراسة هذا الكنز دراسة متأنية، نتبين الآتي:
* كل قطع الكنز من فئة "تترادراخم" فضية، تزن الواحدة منها أكثر قليلاً من ١٧ جراما، و التصميم الرئيسي واحد، لكن رموز كل مدينة تختلف عن الأخرى، والغالبية العظمى منها ضربت في حياة الإسكندر الأكبر والقليل جدًا ضُرب في عهد خليفته فيليب الثالث؛ و البعض الآخر في فترة حكم بطليموس الأول كوالي على مصر قبل أن يعلن استقلاله بها ويتوج نفسه ملكًا و فرعونًا حسب التقاليد المصرية القديمة، واعتمادًا على تاريخ أحدث مسكوكة بالكنز، يمكننا تخمين الفترة التي أغلق بها وتم دفنه بما بين عامي ٣٢٠ و ٣٠٥ قبل الميلاد تقريبًا.
* لو قمنا بوضع نقط على الخريطة تمثل مواقع المدن التي ضربت بها قطع الكنز وقمنا برسم خطوط بين تلك النقط، سنتفاجأ بأننا أمام نفس المسار الذي وطأته خيول الإسكندر المقدوني خلال إجهازه على الإمبراطورية الأخمينية باتجاه الشرق.
* بعد إحصاء مدن السك وترتيبها حسب الأكثر حضورًا بالكنز، سنكتشف أن مقدونيا في المقدمة وتليها بابل، لكن مهلاً أليست مقدونيا هي مُبتدأ الاسكندر وبابل هي خاتمة حياته؟!!! ربما صدفة وربما لا.
* القطع المضروبة في مصر قليلة جدًا بهذا الكنز مقارنة مع باقي الأقاليم، فالإسكندرية وممفيس؛ الاثنتين معًا في ذيل قائمة المدن الأكثر حضورًا بكنز دمنهور.
* يوجد بكنز دمنهور عدد كبير من القطع مجهولة مكان السك، وهي على الأغلب إما اصدارات مؤقتة لمدن لا نعلمها أو سكوك حربية ضربت أثناء تقدم الجيوش لتمويل العمليات العسكرية، وربما هناك تفسيرات أخرى لماهية المجهول من القطع لكن اجتماعها بتلك الكثافة في هذا الكنز له دلالة قد تساعدنا في حل اللغز، و في كل الأحوال له فائدة علمية كبيرة.
* أغلب قطع الكنز بحالة جيدة جدا، والكثير بحالة أكثر من رائعة، بشكل عام نرى أن ظروف الحفظ في باطن الأرض كانت مناسبة، و توحي لنا بأنها أودعت جرارًا مُحكمة الصنع والغلق حمت هذا الكنز من التآكل عبر الزمان.
* المكان التقريبي لاكتشاف الكنز يقع في نطاق مدينة قديمة كانت تسمى "هرموبوليس ميكرا Ερμουπολις Μικρα، بالأحرى كان هذا اسمها اليوناني، والذي عُرفت به خلال الفترة الهلينستية، وقد ازدهرت هذه المدينة بتلك الحقبة التاريخية لموقعها القريب من مدينة نوكراتيس، والتي هي أقدم مستعمرة تجارية يونانية بمصر، بالإضافة لقربها من مدينة الإسكندرية، حيث مقر الحكم الجديد ومركز تجارته ومستقر ثروته.
* يعود كنز دمنهور لفترة زمنية مُثقلة بالأحداث التاريخية، فقد عاصرت قطعه انتصارات الإسكندر وتوسعاته كما عاصرت أيضا صراعات خلفائه على حكم تلك الإمبراطورية مترامية الأطراف التي ورثوها بعد موته المُفاجئ ببابل.
* مالك تلك الثروة التي اكتنزت بدمنهور من المؤكد أنه لم يكن شخصًا عاديًا، فبمقاييس ذاك الزمن تُمثل تلك القطع النقدية ثروة ضخمة جدًا، وربما يمكننا ترجيح أنه لم يكن مصريًا أيضا، وربما نندفع أكثر لنخمن أنه إما تاجرًا كبيرًا أو قائدًا عسكريًا إغريقيًا ممن حاربوا خلف الإسكندر واستقر بهم الحال في مصر برفقة بطليموس، و بطبيعة الحال هناك تخمينات أخرى، لكن المؤكد أن مالك تلك الثروة كان ينتمي للطبقة العليا وفق مقتضيات عصره.
نختم بعرض صور لبعض النماذج من كنز دمنهور مرتبة حسب مدينة السك، وكل تلك القطع موجودة حاليا ضمن مجموعة الجمعية الأمريكية للنميات ANS بنيويورك؛ ومتحف أشموليان باكسفورد؛ و مجموعة المكتبة الفرنسية الوطنية BNF بباريس.
محمد عبد الحميد
باحث في تاريخ المسكوكات القديمة
المراجع:
Margaret Thompson & Otto Mørkholm & Colin M. Kraay , An Inventory of Greek Coin Hoards American Numismatic Society-
Frederique Duyrat , Le trésor de Damanhour (IGCH 1664) et la Circulation monétaire en Egypte hellénistique-
M.J. Price , The Coinage in the name of Alexander the Great and Philip Arrhidaeus , The British Museum - Swiss Numismatic Society-
Sylloge nummorum Graecorum , Volume V , Ashmolean Museum Oxford-
http://coinhoards.org/id/igch1664
نماذج من كنز دمنهور مرتبة حسب مدينة السك
نماذج من كنز دمنهور مرتبة حسب مدينة السك
نماذج من كنز دمنهور مرتبة حسب مدينة السك
نماذج من كنز دمنهور مرتبة حسب مدينة السك
نماذج من كنز دمنهور مرتبة حسب مدينة السك
نماذج من كنز دمنهور مرتبة حسب مدينة السك
نماذج من كنز دمنهور مرتبة حسب مدينة السك
نماذج من كنز دمنهور مرتبة حسب مدينة السك
نماذج من كنز دمنهور مرتبة حسب مدينة السك
نماذج من كنز دمنهور مرتبة حسب مدينة السك
نماذج من كنز دمنهور مرتبة حسب مدينة السك
نماذج من كنز دمنهور مرتبة حسب مدينة السك
نماذج من كنز دمنهور مرتبة حسب مدينة السك
نماذج من كنز دمنهور مرتبة حسب مدينة السك
محمد عبد الحميد باحث في تاريخ المسكوكات القديمة