إحياء ذاكرة الأمم واجب وطني، يستنشق الناس منه عبير الأمان والقدرة على تحقيق ما يصبون إليه، وخاصة إذا كانت هذه الذكريات مرتبطة بصلابة جيش حامي يسانده شعب حاني، حققوا سويًّا معجزة النصر في أمِّ المعارك وهي نصر أكتوبر ١٩٧٣، وذلك بعطاء الرجال الأبطال ودعم وصبر المصريين؛ ليحققوا حلمًا انتظرته أمَّة بأسرها من المحيط إلى الخليج..
ولعل ما قامت به وزارة الدفاع خلال الأيام الماضية بالإفراج عن أكثر من ٨٧٠ وثيقة سريَّة لأول مرة بمناسبة مرور ٥٠ عامًا على حرب أكتوبر يأتي لنتذوق مجددًا طعم الانتصار، الذي نقلنا من اليأس إلى الأمل، وترك في وجدان الشعب المصري والأمَّة العربيَّة بصمة لا تنسى ويجعلنا نتطلع للمزيد من الوثائق الهامة، فنحن أبناء تجربة يمكن تكرارها في أي وقت في حالة المساس بالسيادة المصريَّة في أي اتجاه، فالحياة مدرسة أستاذها الزمان ودروسها التجارب.
ولعل أهميَّة هذه الوثائق أنها تحاكي بشكل تنفيذي كيف تم الانتصار بالعمل الموحد في كل الجبهات بتفاني مطلق وبإمكانيات عسكرية محدوده ضد قوة إسرائيليَّة متغطرسة، تملك أحدث الأسلحة وتدعمها (أمريكا) أقوي جيوش العالم، ولكن نجح الجندي المصري في رسم صورة انتصار من ذهب، وجعل من يوم السادس من أكتوبر 1973 يومًا يعلو بهامته على كلِّ الأيام.
وتأتي الوثائق أولًا لتتحدث من خلال ٤٦ وثيقة عن حرب يونيه ١٩٦٧بين العرب وإسرائيل، والتي أدت إلى تدمير حوالى 80% من العتاد الحربي واستشهاد 25000، واحتلال سيناء وتهجير بعضًا من سكان مدن القناة المصريَّة، والقنيطرة، وهضبة الجولان السورية، وعشرات الألاف من الفلسطينيين، واحتلال القدس الشرقيَّة، والضفه الغربيَّة، وغزة وفتح باب الاستيطان بها وأغلاق قناة السويس.
وتتحدث الوثائق من خلال ٢٠ وثيقة عن الحراك السياسي ما بعد مبادرة (روجرز) لوقف إطلاق النار ٨/٨/ ١٩٧٠ وحتى صباح ٦/١٠/ ١٩٧٣م، كما تتحدث من خلال ٢٦ وثيقة عن الاستخدام السياسي لسلاح البترول العربي.
وتعاود الوثائق المفرج عنها ثانيًا: لتكشف أسرار الحرب في التخطيط الإستراتيجي العسكري من خلال ١١٦ وثيقة وفيها تجد التخطيط الإستراتيجي العسكري المصري لأكتوبر، والذي يرقى إلى أعلى درجات الفكر العسكري العالمي، فتتحدث من خلال ٥ وثائق عن فكر الاستخدام للقوات المسلحة (العمليَّة جرانيت ٢ المعدلة منطقة البحر الأحمر، وخريطة للتخطيط للعمليَّات على الجبهة المصريَّة والجبهة السوريَّة، و١٨ وثيقة عن استخدام القوات المسلحة في فكرة العمليَّة جرانيت ٢ المعدلة، ووثيقة عن الخطط التكميليَّة والخاصة مع دول الدعم العربي والعسكري لسوريا، و٤ وثائق عن الخطط التكميليَّة والخاصة مع دول الدعم العربي والعسكري لمصر، بالإضافة ٨٧ وثيقة عن الخطط التكميليَّة والخاصة عن أعمال قتال وتقارير تخصصية.
كما تم الكشف ثالثًا: من خلال ٥٣٩ وثيقة عن بعض تفاصيل إدارة العمليَّة والحرب بمراحلها من الضربة الجوية حتى وقف إطلاق النيران، وتكوين رءوس الكباري، وتطوير الهجوم وتداعياته، والثغرة ومعركة المزرعة الصينيَّة، وكيف تم اقتحام مانع قناة السويس الصعب واجتياز خط بارليف المنيع، واقتحام الضفة الشرقيَّة للقناة وتقارير يوميَّات المعارك والأسرى الإسرائيليين لنلاحظ أنَّ المخاطرة كانت كبيرة والتضحيات عظيمة لحرب 6 أكتوبر المجيدة.
وتتناول الوثائق رابعًا: التخطيط لتصفية الثغرة (الخطة شامل وشامل المعدلة) وخريطة فكرة العمليَّات الهجوميَّة لنكتشف أنَّ معركة الثغرة هي محاولة فاشلة لتقليص حجم الانتصار المصري والتغطية على الخسائر الجسيمة التي دفعتها إسرائيل كثمن لفتح محور إلى الضفة الغربيَّة للقناة كما قال موشى ديان في اتصال تليفوني مع شموئيل جونين؛ حيث قال لقد حاولنا وكل محاولتنا ذهبت أدراج الرياح وليس أمامنا إلا أن نستمر حتى النهاية المريرة.
كما شملت خامسًا: وثائق حرب أكتوبر الحديث عن مرحلة فض الاشتباك وانسحاب القوات الإسرائيليَّة من خلال ٦٧ وثيقة، فبعد اليوم السادس عشر من بدء حرب أكتوبر صدر قرار مجلس الأمن رقم (338) والذي يقضيبوقف جميع الأعمال العسكريَّة بدءًا من 22 أكتوبر 1973م، والذي قبلته مصر ونفذته ولكن خرقته كعادتها إسرائيل مما أدى إلى صدور قرار آخر يوم 24 أكتوبر، والتزمت به إسرائيل اعتبارًا من يوم 28 أكتوبر، واضطرت للدخول في مباحثات عسكريَّة للفصل بين القوات في شهر أكتوبر ونوفمبر 1973م (مباحثات الكيلو 101 والتي تم فيها الاتفاق على وقف إطلاق النار وتولي قوات الطوارئ الدوليَّة المراقبة ثم بدأ تبادل الأسرى والجرحى وتشمل الوثائق أوضاع القوات وتقارير هامة.
ولأن الإعلام يلعب دورًا مهمًّاأثناءالحروب وقبلها وما بعدها، فقد كشفت الوثائق سادسًا:عن بعض أدوار الإعلام العسكري في حرب 1973م، وذلك من خلال ٥١ وثيقة تتناول الإعلام الإسرائيلي قبل وأثناء وبعد الحرب، ومقتطفات من الإعلام الدولي والمصري والعربي، وكيف خرج الإعلام المصري إلى نطاق التأثير الإقليمي والدولي، وتوجه نشاطه لكشف النوايا الإسرائيليَّة والتحم بالأحداث العربيَّة والعالميَّة.
سابعًا: تكشف ٣ وثائق عن الهيئات والمنظمات الدوليَّة والإقليميَّة ودوره الهام والرئيسي في إصدار القرارات المتعلقة بوقف إطلاق النيران والرقابة الدوليَّة، وفض الاشتباك، وإرسال قوات حفظ السلام في حرب أكتوبر مدعومًا من جامعة الدول العربيَّة والاتحاد الأفريقي.
وثامنًا: من خلال الوثائق تمَّ إظهار مذكرات القادة وكانت مذكرات الفريق محمد عبد الغني الجمسي بخط يده؛ ليتحدث عن الأوضاع والنكسة والتحول للنصر، لتقول الوثائق كلمتها الرئىيسيَّة: إن أكتوبر تحولت إلى وحدة قياس لكفاءة الجندي المصري في المعركة، وتغيير الكثير من المفاهيم العسكريَّة العلميَّة، ولتوكِّد دائمًا أنَّ الجندي أهم من أحدث الأسلحة، والذي نجح في إدارة سيمفونيَّة تتناغم مع الإمكانيَّات المتواضعة، ليصب قواعد خرسانيَّة لانتصاره، ويحقق معجزة البشر في العصر الحديث وهي انتصار أكتوبر المجيد.