مؤشران مهمان في الأيام الأخيرة بين مصر والسعودية يخصان السياحة والدراما، ويذهبان بالتحليل إلى جدارة القوى الناعمة في دعم العلاقات التاريخية بين البلدين، وفي استمرارها وتطويرها ودفعها.
وقطعًا لا يوجد بلدان جاران من دون خلاف أو تباعد في وجهات النظر حيال بعض القضايا التي تخصهما أو تكون معنية بغيرهما وتلامس مصالحهما، لكن يبقى دائمًا في التقدير المشترك للبلدين أنه مهما تداخلت الأهداف والغايات أو تعارضت، فإنه لا يمكن القفز فوق حقائق التاريخ ومقدرات الجغرافيا.
المؤشر الأول أفاد بأن مصر الوجهة الأكثر بحثًا في السعودية لقضاء عطلة يوم التأسيس الموافق 22 فبراير من كل عام، وذلك نقلًا عن تقرير فضائية "العربية" التي تملكها السعودية، والذي رصد ارتفاع عمليات البحث عن رحلات طيران خلال أسبوع يوم تأسيس المملكة، حيث زاد البحث بنسبة 71% مقارنة بالعام الماضي.
ومع الجهود السعودية الحكومية التأسيسية والترويجية والترفيهية كان من الطبيعي أن تأتي السياحة الداخلية في المرتبة الأولى بين الوجهات المرغوبة؛ وذلك لاعتبارات عدة منها ازدياد في عدد المقاصد في الداخل، وقصر مدة الإجازة والميزانية المحدودة عند بعض الأسر المتطلعة لرحلة أقل كلفة.
تصدرت مصر لائحة أكثر 10 وجهات دولية بحثًا في السعودية خلال أسبوع يوم التأسيس، تلتها بالترتيب: الهند وتركيا والإمارات وبريطانيا والمغرب وتايلاند وإيطاليا وفرنسا وإندونيسيا.
وقوائم البحث ليست مجانية إنما تلعب دورًا مهمًا في تحديد الاتجاهات ورغبات المستخدمين في مجال البحث، سواء ما يدور حول السياحة، السفر، العقار، الدواء، الملابس، والترفيه، وكل غرض تقريبا في حياتنا المعاصرة.
وهكذا يتطلع المسافرون في المملكة إلى زيارة مصر، والأمور ليست مفاجئة أو جديدة بالنسبة إليهم، ولو أن هناك مؤشرًا يقيس عدد مرات الزيارة لهؤلاء الذين بحثوا عن زيارتها في أسبوع التأسيس، لوجدنا أنها متعددة.
وهذا الإطار لا يعني تجاهل ما يمكن أن تقوم به الجهات المعنية في مصر، من دعم للزائرين، والرقابة على الأماكن السياحية، وتنويع المقاصد، وصناعة برامج جاذبة، لإثبات أن خيارات هؤلاء الضيوف صحيحة.
وكشفت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، منشورة في أكتوبر الماضي، أن نسبة السائحين الوافدين إلى مصر من الدول الأوروبية 67% يليهم السائحون العرب بنسبة 24.8%، (نحو 13.7 مليون سائح في عام 2023 حتى شهر أكتوبر)..
وقدرت لجنة السياحة في مجلس النواب أعداد السياح العرب بما يقارب 2.7 مليون سائح، نصفهم من السعوديين، وهي أعداد يمكن العمل على جذب أضعافها في ضوء إمكانيات السوق السياحية المصرية ومناسبتها للسائح العربي بصفة عامة.
وتقول الاحصائيات إن السعوديين من أكثر الشعوب حبا للسفر والعطلات، والأكثر إنفاقا (طبقا لما نشرته صحيفة سبق الإلكترونية السعودية نقلا عن مؤسسة النقد العربي السعودي)، ويقدر عددهم بـ 13 مليون سائح سنويا، ولا شك أننا الأقرب، وأن بوسعهم كالسياحة الأوروبية وربما أكثر، سواء في العطلات القصيرة أو الطويلة، شغل جزء غير هين من الوجهات والمقاصد السياحية المصرية معظم السنة، لأن السائح السعودي يقضي في المتوسط أكثر من ليلة وينفق أكثر في رحلته.
أما المؤشر الثاني فيتعلق بالتعاون الفني بين مصر والسعودية، خاصة الحفلات والليالي الغنائية تحديدًا، لكن ما جرى الأيام الأخيرة من اتفاق على التعاون، كان مجسدًا للتطور الكبير والدائم في العلاقات بين البلدين، ولعل زيارة رئيس هيئة الترفيه السعودية المستشار تركي آل الشيخ ولقاءه مع وزيرة الثقافة نيفين الكيلاني، تدشن تعاون وتبادل وإنتاج مشترك في السينما والمسرح.
وتابعت مؤتمرًا صحفيًا للشيخ تركي ورئيس الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية عمرو الفقي، كشف تفاصيل كثيرة حول عملية التعاون الواسع والمأمول عبر اتفاقيات جديدة بين هيئة الترفيه والمتحدة.
المفيد في الأمر أن هذا النشاط تمكن أخيرًا من دحض أوهام المنافسة بين البلدين، والتي لم تكن مفهومة، وهو الأمر الذي ألمح إليه الشيخ تركي بقوله: إن "مواسم الرياض السعودية تعتمد في معظم فعالياتها على فنانين وكوادر فنية مصرية في العزف والغناء والإخراج بمشاركة كبار الفنانين المصريين"..
هكذا يمكن استثمار جزء مهم من المشترك الإنساني بين مصر والسعودية عبر الثقافة والفن، ما يحدث في تقديري انتعاشة في مجالات تجيدها النخب الإبداعية المصرية، وتتلقاها نخب موازية في السعودية مستعدة لمشاركتها ومنافستها إبداعيا، وتؤثر العملية برمتها في الشعوب، من حيث قدرتها على مد الجسور. والقوى الناعمة في مصر ليست في حاجة إلى اختبارات؛ لأن ماضيها هو الذي أسس جذورها في الجوار العربي والإسلامي، وتظل فرص إعادة إنتاجها قائمة طوال الوقت.
كما أن السعودية ليست حديثة العهد بهذه القوى، ولطالما رحبت بها، على طريقة المتلقي، والآن بوسعها أن تتلقاها كمشارك.