منذ سنوات ليست بعيدة كانت العلاقات المصرية - التركية نموذجًا للعلاقات بين دولتين سواء على المستوى الثنائي أو متعدد الأطراف، وبالتالي كان التنسيق بينهما قائمًا في كافة المجالات وتحولت إسطنبول إلى واحدة من أهم الواجهات السياحية للمصريين، كما أصبحت القاهرة واحدة من العواصم المفضلة لدى الأتراك، بل إن المنتجات التركية تحولت إلى "ماركة مسجلة" لدى الكثير من المحلات المصرية وشرعت أنقرة في إقامة منطقة صناعية تركية في مدينة السادس من أكتوبر؛ لتأكيد العلاقات الوطيدة بين البلدين ولتعزيز التعاون الاقتصادي بينهما.
واستمرت العلاقات تسير في الاتجاه الصحيح حتى شهدت هزة عنيفة في أعقاب ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣، وما تلاها من أحداث نتيجة الموقف التركي غير المبرر - آنذاك - ثم شهدت العلاقات فترات من الصعود والهبوط سياسيًا؛ حيث تم تخفيض العلاقات الدبلوماسية إلى مستوى القائم بالأعمال، ورغم ذلك احتفظت علاقات البلدين الاقتصادية بدرجة - مقبولة - من الدفء واستمرت وتيرتها بصورة إيجابية رغم الجفاء السياسي.
وفي عام ٢٠٢١ استقبلت القاهرة عدة إشارات إيجابية من الجانب التركي تؤشر لرغبة أنقرة في استعادة علاقاتها مع القاهرة وبالفعل استجابت القاهرة بعد مشاورات غير معلنة، وتم عقد اجتماع تنسيقي في القاهرة أعقبه اجتماع آخر في أنقرة، ثم خلالهما بحث العديد من الملفات العالقة بين الجانبين، وتجمدت المشاورات المعلنة مرة أخرى، وإن كانت محاولات بعض الدول لم تتوقف، وفي مقدمتها قطر، والتي تتمتع بعلاقات طيبة مع الجانبين؛ حيث نجح أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثانٍ في ترتيب المصافحة الشهيرة بين الرئيسين السيسي وأردوغان في قطر مع انطلاق كأس العالم في نوفمبر ٢٠٢٢، ثم أعقب تلك المصافحة لقاءات مباشرة بين الرئيسين في عواصم أخرى، وبالتالي تم فتح الباب على مصرعيه لعودة العلاقات إلى مسارها الصحيح؛ حيث جاءت زيارة وزير الخارجية سامح شكري لتركيا عقب زلزال فبراير ٢٠٢٣، ثم أعقبتها زيارة نظيره التركي للقاهرة حتى تم الإعلان المشترك بإعادة سفيري البلدين إلى موقعهما مرة أخرى، وتم تطبيع العلاقات في منتصف العام الماضي.
والمؤكد أن المحادثات المهمة التي أجراها الرئيس السيسي مع نظيره التركي أردوغان خلال زيارته الأربعاء الماضي لمصر جاءت تتويجا لجهود كبيرة بذلت على مدار الأعوام الماضية من الجانبين، خاصة أن الأحداث التي تمر بها المنطقة، وفي مقدمتها العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة، وما يشهده الأمن الملاحي في البحر الأحمر من تداعيات خطيرة؛ نتيجة ما تقوم به جماعة الحوثيين من اعتداءات على السفن التجارية، بالإضافة إلى ملفات إقليمية ساخنة من بينها الملف الليبي والأزمة السودانية وتطورات الأوضاع بين الصومال وإثيوبيا، فضلا عن الملف الأبرز وهو العلاقات الثنائية وأهمية دعمها في كافة المجالات جعلت القمة المصرية – التركية تكتسب أهمية كبرى ليس للبلدين فقط، وإنما للمنطقة أيضًا.
ويقينًا فإن التوقيع على إقامة مجلس للتعاون الإستراتيجي رفيع المستوى بين البلدين سوف يعطي دفعة قوية لتعزيز التعاون في كافة القطاعات؛ سواء السياسية أو الأمنية أو الاقتصادية، خاصة أن هناك رغبة قوية لدى الجانبين، وسعي لرفع قيمة التبادل التجاري إلى ١٥ مليار دولار، وفتح آفاق استثمارية جديدة، بالإضافة إلى زيادة التنسيق في الملفات الإقليمية التي تهم البلدين، ومن بينها ملف ترسيم الحدود البحرية، وهو ما يفتح الباب أمام التعاون البحري والتنقيب عن الغاز في البحر المتوسط لصالح البلدين.
وأعتقد أن الزيارة المرتقبة للرئيس السيسي لتركيا في أبريل المقبل سوف تحمل الكثير من الدعم والتنسيق بين القيادتين السياسيتين، في ظل انعقاد أول اجتماع لمجلس التعاون الإستراتيجي بينهما، وبالتالي فتح آفاق جديدة للتعاون، وعودة علاقات القاهرة وأنقرة إلى سابق عهدها، بل وأفضل مما كانت عليه منذ سنوات، وهو ما ينعكس بصورة إيجابية على مواقف البلدين تجاه العديد من القضايا الإقليمية والملفات الدولية الشائكة.
[email protected]