لماذا لم تلتفت إسرائيل إلى قرارات محكمة العدل الدولية، واعتبرتها مثلما سبق من قرارات دولية، ولماذا تصنف حكومة الاحتلال الصهيونية نفسها فوق أي قرار وكل قانون؟ إنها العقيدة الصهيونية التي قسمت البشر إلى قسمين، يهود وغير يهود، وما ينطبق على غير اليهود لا ينطبق على اليهود، فوحدهم أصحاب الحق الإلهي، وهم فقط شعب الله المختار الذين يحق لهم ما لا يحق لغيرهم.
إذن علينا أن نعود إلى قرارات المحكمة التي لم تصدر أمرًا بإيقاف الحرب.
لم تقل محكمة العدل الدولية في ٢٦ يناير 2024 كلمة تستحق الغضب الصهيوني البالغ وقتها، ولا الفرح العربي الظاهر، فقرار المحكمة لم يخرج عن خط المؤسسات الدولية - مجلس الأمن كمثال - في التعاطي مع العدوان المتجاوز لكل ما هو قانوني وإنساني.
تلخص الغضب والفرح في "قبول" المحكمة لـ"الدعوى"، وهذا لا يعني سوى النظر في صحة التهم من عدمها، أي لا يحق للفريقين الغضب أو الفرح.
وما قالته المحكمة قالته حكومات ودول عدة، وكلها تأتي من باب "مراعاة الظروف الإنسانية"، وكبح جماح العدوان وليس إيقافه، والسماح بإدخال المساعدات من باب "الإنسانية" أيضًا.
قبول دعوى جنوب إفريقيا، وهي مشكورة في كل الأحوال، تعني "التحقيق"، وهذا أمر يستغرق - في العادة - سنوات، ونص الحكم على "اتخاذ جميع التدابير لمنع أي أعمال يمكن اعتبارها إبادة جماعية، وضمان عدم قيام الجيش الإسرائيلي بأي أعمال إبادة، ومنع ومعاقبة أي تصريحات أو تعليقات عامة يمكن أن تحرض على الإبادة، واتخاذ جميع التدابير لضمان وصول المساعدات الإنسانية، وعدم التخلص من أي دليل يمكن أن يكون دليلًا في القضية، وتقديم تقرير للمحكمة خلال شهر عن مدى تطبيق إسرائيل لهذه الأحكام".
وإذا ما تأملت النص ستجده حمل ذات المطالب التي تحدث عنها الغرب وفي المقدمة الشريك الراعي؛ وهو أمريكا.
أي أن الحكم حمل ذات العبارات السياسية الهادفة إلى تهدئة الرأي العام العالمي، والحفاظ على شكل القانون، ليس أكثر.
فالمحكمة تطالب المعتدي باتخاذ تدابير "لمنع ما يمكن اعتباره جرائم إبادة جماعية"، أي أنه حكم على ما هو آت وليس عقابًا على ما فات، ورهنت أدلة الإثبات كـ"جريمة الإبادة" بيد إسرائيل، وعليها عدم التخلص من هذه الأدلة.. كيف؟!"، وعلى إسرائيل أن تُقدم للمحكمة تقريرًا عن التزامها بالأحكام والتدابير.. كيف"؟".
وربما رأى البعض في العالم العربي في الحكم ما يثلج الصدر، بما أن المحكمة قبلت "النظر" في دعوى جنوب إفريقيا بوجود أعمال ترتقي لجرائم الإبادة. ومصدر فرح البعض يأتي من زاوية وجود نافذة أمل تفتح ويطل منها "عدل ما" لقضية كاد أن يطمرها الظلم ويغمرها النسيان.
ورغم أن الحكم يعطي بالفعل بارقة أمل لشعب سُلبت حقوقه كافة، واستبيحت أرضه كلها، وسرقت ممتلكاته وعاش حياته بين موت، وتهجير، وعجز.
المحكمة لم تستجب لمطلب وقف آلة القتل الجماعي، والتي هي سياسة منهجية معلنة من قبل ضباط وقادة وجنود جيش الاحتلال، فضلًا عن توثيق تصريحات كبار قادة الحكومة الصهيونية.
تهمة الإبادة ثابتة، لكن المحكمة لم توقفها - قبلت المحكمة الدعوى، لكنها لم تفصل فيها ولن تفصل قبل سنوات، بعد أن تفحص وتقلب في الأدلة التي ستقدمها إسرائيل "عن نفسها"، وإذا كنت ممن يعتقدون أن "عدالة الأمم" وهم، وأن القوة تحكم وتتحكم، وأن القوانين الدولية عظيمة الشأن عديمة الفعل، فسترى هذا الحكم مجرد واجهة لما يسمى بالإنسانية الأممية، فلم تكن المحكمة في حاجة إلى مزيد من الأدلة أو التحقيقات، لكي تحكم في جريمة "الإبادة الجماعية" أو على الأقل "إيقاف العدوان" إذ لم تكن هناك أدلة دامغة بالصوت والصورة على جريمة إبادة جماعية مثل ما حدث ويحدث في غزة، ولم يكن هناك اعتراف، الذي هو "سيد الأدلة"، مثلما رأينا من قادة الاحتلال، من ضباط إلى وزراء، وهو ما لم تستطع المحكمة تجاهله، وطالبت بإيقافه "إيقاف التصريحات وليس إيقاف الإبادة"؟
إذن لم تخطُ المحكمة خطوة واحدة خارج الإطار السياسي الذي تقوده أمريكا.
وما ذهبت إليه صحف عالمية مثل "الإندبندنت" واعتبارها الحكم "كارثيًا" على إسرائيل كونها "أُخطِرَتْ بالفعل بأن لديها قضية إبادة جماعية، وجاء هذا الإخطار عشية ذكرى الهولوكوست، بما يلطخ سمعة إسرائيل"، ورأت الصحيفة أن الحكم يضعف استعداد حلفاء إسرائيل فيما يتعلق بتقديم الدعم لها.
لكن الوقائع أثبتت أن كل ذلك غير صحيح، فقد استسلمت الدول الداعمة للكيان الصهيوني واقتنعت باتهامها لـ"الأونروا".. الشاهد الحي على جرائم إسرائيل منذ 75 عامًا، صدقت الدول رواية إسرائيل عن انخراط 12 موظفًا من موظفي الهيئة الأممية في عملية "طوفان الأقصى"، ومن ثم استجابت لمطلب عدم دعم "الأونروا"، مما يمثل عقابًا جماعيًا لأكثر من 7 ملايين لاجئ.
ولمن لم يلحظ، فإن عدم التعليق الفوري للعمل العسكري، مثلما حدث في حكم ضد روسيا بعد أيام قليلة من بدء الحرب الروسية الأوكرانية، أعطى انطباعًا بأن المحكمة موافقة على الحرب. الذريعة هنا، كما فسرها البعض، أن "حماس" هي من بدأت الحرب، والمحكمة هنا لم تفرق بين "حركة" و"دولة" بين من يمتلك كافة أنواع أسلحة الفتك الشامل، ومن يحمل أسلحة متواضعة. وحتى حجة من بدأ الحرب يوم 7 أكتوبر حجة غير منطقية، فالحرب مستمرة ضد الفلسطينيين منذ 75 عامًا ولم تتوقف يومًا.
وإذا كان الحكم ضد روسيا قد صدر بعد أيام من الحرب، ولم تكن هناك أدلة مثل تلك التي قُدمت للمحكمة في قضية "غزة"، وهذا أمر مثير للغرابة. والأكثر غرابة أن المحكمة عبرت عن قلقها البالغ على "الرهائن" لدى حماس، وطالبت بإطلاق سراحهم، ولم تقلق من اعتقال حوالي 7 آلاف فلسطيني منذ بدء العدوان على غزة.
وإذا نظرنا إلى أبسط تعريف لعملية الإبادة الجماعية، سنجد أنه قتل من أجل محو أمة أو عرقية ما، وهذا ما حدث بالصوت والصورة في غزة. قالوا إنهم سيدمرون حماس، لكنهم قالوا أيضًا إنهم سيدمرون غزة، ووصفوا أهلها بالحيوانات، وطالبوا بعض الدول باستقبال من تبقى حيًا، واستمرت هذه التصريحات علانية بعد حكم المحكمة وإلى اليوم.
المحكمة وازنت بين ما تريده الدول الغربية، وبين ما تقرره لوائح وقوانين العدالة، وراعت ما جرى داخل جلسات مجلس الأمن، الذي فشل في وقف العدوان، بل وانزلقت إلى ما هو سياسي أكثر مما هو قانوني، فالحرب الدائرة في غزة يدفع ثمنها أبرياء لا حول لهم ولا قوة.
واستخدمت كلمة "رهائن" "المُجرَّمة"، بدلا من "الأسرى"، والفرق شاسع بين الكلمتين.
ورغم أن كثيرًا من قادة إسرائيل انتقدوا الحكم، وعبروا عن رفضهم له، إلا أنهم باتوا غير مؤرقين من وصمهم قادة لحرب إبادة.
وما انتقادهم سوى إعطاء انطباع ما أنهم تضرروا من الحكم الذي هو في حقيقته لا شيء، وستقدم إسرائيل أدلة على أن جيشها لم يرتكب أعمال إبادة، وأن التصريحات لا تعبر عن الواقع الفعلي، وستستجيب المحكمة، فلا يمكن للبلد الذي أسس بسبب "ادعاء" وجود جرائم إبادة ضده، أن يكون نفس البلد الذي ارتكب الإبادة الجماعية.
وإذا ما برأت المحكمة إسرائيل من تهمة الإبادة الجماعية، ستكون قد برأت كل التاريخ الصهيوني، الذي شُيد على كل صنوف الإبادة والتطهير العرقي والتهجير القسري واحتلال الأراضي.
وهناك عدد كبير من المحللين والمفكرين اعتبروا قرار المحكمة انفراجة مهمة، وفي المقدمة يأتي الدبلوماسي المخضرم نبيل فهمي، الذي رأى أنه من الخطأ أن يصور قرار محكمة العدل الدولية بشأن العدوان على غزة، على أنه انتصار لإسرائيل، في ذات الوقت رأى فهمي أن القرار خطوة أولى غير كافية، لكنها مهمة في التصدي للتجاوزات الإسرائيلية وتجاهلها القانون الدولي، وفي حشد الرأي العام والمؤسسات الدولية والقانونية للتصدي والتعامل مع هذه التجاوزات، وتحميل المتجاوزين مسئولياتها.
والحقيقية أن رأي فهمي المنشور في مواقع الإندبندنت عربية، مفرط في التفاؤل، وكان يمكن أن يكون تفاؤله في محله لو لم تكن إسرائیل طرفًا في القضية، والدليل هو سرعة الاستجابة بقطع المساعدات الإنسانية لوكالة "الأونروا" بمجرد (ادعاء) لإسرائيل، ولم تنتظر نتيجة التحقيقات التي وإن صحت لا تستوجب عقاب 7 ملايين فلسطيني نازح.
وفي مقابل الرأي المعتبر لنبيل فهمي، رأي مضاد قدمه السير مالكوم ريفكند إذ قال: "لا شيء مما قاله القضاة يعني أن ثمة حتى افتراضًا بأن (تهمة) الإبادة قد حدثت... ستنظر إسرائيل بعين الرضا والارتياح؛ لأن المحكمة لم تصدر أى طلب بوقف فوري لإطلاق النار... سيكون من دواعي سرور الإسرائيليين أن المحكمة أعربت عن "قلقها البالغ" على مصير الرهائن.... ولم تخلص المحكمة في أي جزء من حكمها إلى أن إسرائيل فشلت بالفعل على صعيد الالتزامات التي طالبت بها المحكمة".
الرأيان المتعارضان من دبلوماسيين لهما باع طويل في العمل الدبلوماسي، ويعرف كل منهما إلى أين تسير مثل هذه القضايا. أما نحن فقد تعلمنا أن القانون الدولي لم ينصف فلسطين يومًا، وأن قرار المحكمة أقل من قرار مجلس الأمن رقم "2720" والصادر قبل حكم قرار المحكمة بأيام، ويدعو إلى إيصال المساعدات الإنسانية من دون عوائق، وتهيئة الظروف اللازمة لوقف مستدام للأعمال القتالية، ولم ينفذ القرار، لأن إسرائيل ـ تاريخيًا ـ فوق كل القرارات.
محكمة العدل ـ كما قالت مندوبة أمريكا لدى مجلس الأمن في 31/1/2024. "لم تُلزم إسرائيل بوقف إطلاق النار في غزة".. وعدم إلزام إسرائيل بوقف الحرب يعني موافقة ضمنية باستمرار الإبادة الجماعية.