ستضطرك أحيانًا ظروف الحياة وتقلباتها المتتالية لاتخاذ قرارات مفاجئة وعاجلة، قرارات تم تأجيلها لسنوات وعقود، بعد معاناة طويلة وحسابات دقيقة دفعت بك باتجاه آخر، اتجاه قررت فيه أن تحسب نسب نجاحك في علاقاتك الاجتماعية بحسب مبدأ المكسب والخسارة لكل علاقة مررت بها وكنت طرفًا فيها.
يبدو أنك ستقرر الانسحاب لتحدد مصيرك بشكل أفضل، بطريقة ملائمة بعد محاولات كثيرة وسابقة للتأقلم، محاولات بذلت فيها قصارى جهدك وكل طاقتك هدرًا؛ أراك الآن تسعى للعثور على طوق نجاة يباعد بينك وبين الشخصيات السامة التي أحاطت بك من قبل أو مازالت تحيط، لذا فإنه يتوجب عليك الآن أن تقوم بتمهيد الطريق جيدًا قبل التخطيط للرحيل.
يتجدد هذا الشعور بداخلك كلما تسلل إلى حياتك أحد هذه الشخصيات أو بعضها في محاولة منهم لتمزيق شرنقة حريتك الشخصية التي بقيت بداخلها تنعم بقسط من السكينة وراحة البال، حرية آمنت بها واستقيت من رحيقها معنى الهدوء والسلام، قررت الابتعاد بعد أن أثقلتك تجاربك المريرة، فسعيت نحو طريق الهجر الجميل، لكنك مازلت تشاهدهم وهم يقتربون منك محاولين اختراقك بشتى الطرق، وبسعي حثيث منهم راحوا يخططون ليتسلقوا أسوار مدينتك محاولين اقتحامها هي الأخرى، مدينتك التي شيدتها من رصيد مبادئك الضخم، ومن خزائن خلقك القويم.
إنك تسعى للبحث عن كلمات لطيفة، تمر بها وتنثرها فوقهم كالنسمات لعلك تبرر بها أسباب ابتعادك عنهم على استحياء برغم أن جرحهم الغائر المنحوت بأعماق قلبك مرصود ومصلوب، أمازلت تسابق اللحظات لتقدم اعتذارك عن ذنب لم تقترفه وإثم لم ترتكبه؟ أنسيت أنهم كانوا سببًا مباشرًا في إيذائك وإيلامك عن عمد أو دون قصد كما يدعون، إن جريمة استباحة مناطق حريات الآخرين تبقى حية على مر السنين، لا تفنى ولاتسقط مهما كانت المسببات ومهما كان التبرير.
ها أنت تقوم بترتيب أوراقك المبعثرة بعد أن قمت بجمعها من الطرقات، أراك تنظم حقيبة سفرك، تحمل معك ذكرياتك وتستعد للرحيل في رحلة ذهاب بلا عودة، دون حاجة لتعقب أو تعقيب، فالتغيير الذي طرأ عليك الآن استطاع أن يجمدك داخل مساحة صغيرة من صحراء أصابها قحط شديد، عليك أن تبحث عن نبع ماء لترتوي منه وتستريح بجانبه، ثم تقوم لتعاود رحلتك من جديد.
ما زالت الحياة تلقننا دروسًا جديدة، مع كل مطلع شمس تدرسنا مناهج غريبة، تمنحنا آمالاً واهية وتعطينا وعودًا كاذبة، تضع الأغلال في أيادينا وتدور ضاحكة، ممسكة بعصاها السحرية لتحكم قبضتها علينا دون مراجعة منها أو تأنيب، فلنغادر الآن بأقل خسارة، ولنسرع نحو صبح قريب.