استلهام التراث في مسرح فاروق جويدة

12-2-2024 | 14:38

المسرح الشعرى سيئ الحظ فيما يخص حركة النقد؛ ربما لأنه يقع في منتصف الطريق بين النقد الأدبي والمسرحي فتكون النتيجة أنه يسقط من حساباتهما معًا؛ فنقاد المسرح لن يكتبوا عن مسرحية شعرية لم تُنتقَ للعرض مهما كانت جيدة، ونقاد الأدب يهتمون بالقصة والرواية ولا يلتفتون كثيرًا للمسرح خاصةً لو كان شعريًا؛ إذ يتطلب أن يكون الناقد مُلمًّا بالشعر والمسرح معًا وهذا نادر. 

هكذا نكتشف أن الجمهور لا يعرف شيئًا عن مسرحيات شعرية كثيرة كُتبت وأُهملت، ناهيك عن تلك التي عُرضت ثم طوتها ذاكرة الريبرتوار المسرحي وأودعتها جب النسيان.
 
قدم الشاعر المصري البارز فاروق جويدة للمسرح الشعري ثلاث مسرحيات هي: (الوزير العاشق- دماء على ستار الكعبة –الخديوي)، وكلها حظيت باهتمام النقاد والجمهور؛ لاسيما وقد اختير لتقديمها ممثلون أكفاء ومخرجون مسرحيون بارعون، والحركة المسرحية المتنوعة النشطة حينئذ استوعبت كل جديدٍ ومختلف، وكلها ظروف كانت في صف مسرح جويدة. ولاريب أن شهرته كشاعر وجزالة أسلوبه وحسن صياغته لمسرحياته كان السبب الأسبق.

 
الوزير العاشق:

هي المسرحية الأولى لجويدة، ظهرت عام 1981. في 17 مشهدًا على قِسمين. وقد تناول فيها شخصية ابن زيدون الشاعر الأندلسي وقصة الحب التى جمعت بينه وبين الوَلادة بنت المستكفي الشاعرة سليلة بيت الخلافة. افتتح مشاهدها بالراوي أبي حيان يصف أمجاد الأندلس ومآذن قرطبة وينتقي مشهد تنصيب الشاعر الفذ وزيرًا بين شعراء آخرين؛ كمدخل يشي بما سيلاحق الشاعر من مكائد وأحقاد. 

وتبدأ تلك المكائد عندما يبدأ ابن زيدون محاولته لتوحيد ملوك الطوائف ببلاغته ولسانه وشعره وحسن منطقه لمواجهة العدو المتربص على حدود الأندلس. إلا أن منافسيه أوغروا صدر الملك عليه وأقنعوه بأن ابن زيدون ينشد الزعامة، فأمر الملك بإلقائه في السجن. 

وتتعرض الولادة لمساومات الوشاة إمعانًا في إذلالها هي وحبيبها، وتنتهي القصة نهاية مأساوية إغريقية الطابع بقتل ابن زيدون تزامنًا مع أنباء سقوط الأندلس.

ومن نماذج المسرحية الشعرية قولَ ابن زيدون لأحد ملوك الطوائف:
الواقع العربيُّ ينبئنا بأنْ..
كوارثَ الدنيا ستلحقُ بالعرب
حربٌ هنا.. حربٌ هناك
وزعامةٌ في كل شبرٍ من ربوعِ الأندلس
لِمَ لا نوحدُ تحت دين اللهِ كلَّ صفوفِنا؟

 
دماء على أستار الكعبة:
 

مسرحية مكونة من 12 فصلًا على قسمين في نحو 180 صفحة، ظهرت عام 1987. تتخذ من واقعة انتهاك الحجاج بن يوسف الثقفي الطاغية الشهير لحرمة الكعبة بحصاره لابن الزبير في مكة وقت الحج، مُنطلَقًا لصراع ينشأ بينه وبين شخصية تخيلية تمثل الحق في قلوب الناس هي شخصية عدنان، وشخصية أخرى تُدعَى سعاد تمثل الوطن كمعنى مجرد، يتصارع على حبها الحق والباطل أو الحجاج وعدنان. 

وخلال هذا الصراع تتجلى حقيقة الحجاج في علاقته بوزرائه وبالرعية وبمحبوبته وذاته. وتنتهى المسرحية نهاية مأساوية بشنق سعاد. ويتخذ جويدة في هذه المسرحية من الكورَس وسيلة أرسطية الطابع، كمسرحيات إليوت، للفصل بين المَشاهد في ذروات الحالة العاطفية المسيطرة ومع نهايات الفصول بأغانٍ قصيرة ذات دلالة.  ومن أمثلة ذلك ما جاء في نهاية القسم الأول من المسرحية:
أنا الأرضُ أعرفُ معنى الحياة
إذا ماتَ حُلمٌ غرسنا سواه
سترحلُ يومًا حصونَ الظلام
وتَبقَى الشعوبُ ويمضي الطغاة

 
الخديوى:
 

المسرحية الثالثة لجويدة من 11 فصلًا على قسمين في نحو 250 صفحة، تم تمثيلها عام 1993 على مسرح البالون من إخراج جلال الشرقاوي وإنتاج عبدالغفار عودة وتمثيل سميحة أيوب ومحمود ياسين وكوكبة من كبار الممثلين؛ حيث تميزت تلك المسرحية بثراء وكثرة شخصياتها الرئيسية والثانوية والمجموعات. 

تبدأ المسرحية بداية تبدو سعيدة باحتفالية يقيمها الخديو إسماعيل على شرف ضيوفه الفرنسيين بمناسبة افتتاح قناة السويس، بينما يقاسي عمال التراحيل في ذات الوقت الجور والظلم والألم. وبين حاشية الخديوي مَن يرفض هذا البذخ المبالغ وتلك الديون التى يُغرق بها الخديوي مصر بالديون، ومنهم "صِدّيق" أخيه بالرضاعة وأخته أزهار من أميرات القصر ومحبوبة الخديوي، وهما من الشخصيات التخيلية الموظَّفة دراميًا. 

وعندما يثور الشعب رفضًا لسياسات الخديوي التي تسببت في موجات الغلاء يواجه صديق الخديوي بالحقيقة فيغتاله الخديوي، ويخرج مَن يدعي أنه انتحر ويلصق للمنتحر سائر الخطايا السياسية لإسكات الجماهير الغاضبة، ويستمر الصراع بين ظلم الخديوي ومديونيات ديلسيبس ورفاقه والثورة التي يقودها جمال الدين الأفغاني واكتشاف فاطمة ابنة الخديوي لحقيقة أبيها، وينتهي الأمر بالخديوي نادمًا، والشعب ثائرًا تقوده أزهار التي تجهر برفضها لبيع تراب الوطن.

ومن نماذج المسرحية ما جاءَ في آخرها على لسان أزهار بطلة المسرحية:
مصرُ العظيمةُ لن تباعْ
مصرُ التى أعطت ولم تبخل بمالٍ أو رجالٍ أو حضارة
ستظل دومًا في ضميرِ الكونِ فجرًا واستنارة
مصرُ العظيمةُ لن تباعْ.. لا شئَ في الدنيا يساوي شبرَ أرضٍ من ثَراها.

 
السمات العامة لمسرح جويدة

1- التوظيف الدرامي واللغوي: الحدث التاريخي وما يتعلق به من شخصيات لا يمثل لجويدة إلا إطار وظيفي لمعانٍ معاصرة تختلط فيها العاطفة الوطنية والعروبية بالعاطفة الإنسانية. وتتمثل طريقته في خلق صراع مأساوي محتدم يسير في خطين متوازيين أحدهما عاطفي إنساني، والآخَر سياسي وطني. ويتلاقى الخطان في ذروة الصراع وصولًا للنهاية المأساوية على الطريقة الأرسطية، ويتم استغلال أقوى إمكانات اللغة واللفظ وموسيقى الشعر لإحداث الانفعالات الخاصة بتلك المأساة.

2- بواعث استلهام التاريخ: يحقق التاريخ للشاعر عدة مزايا؛ أولها أنه غطاء مناسب لمواراة كل الرسائل السياسية الضمنية المراد بثها ويتربص بها مقص الرقيب، كما أن التاريخ حافل بكل ما يبغيه الشاعر من أدوات كالقصة والحبكة والشخصيات والمعنى والتفاصيل، وتبيت مهمة الشاعر في حسن توظيف القصة الجاهزة وإسقاطها على الواقع. كما أن التراث يتناسب مع طبيعة اللغة الشاعرة الفصيحة.

3- ثنائية المرأة والوطن: في كل مسرحيات جويدة لابد من امرأة تمثل الخط العاطفي في موازاة الخط الأيديولوجي الفكري، فهي الولادة بنت المستكفي في الوزير العاشق، وسعاد محبوبة الحجاج وعدنان في دماء على ستار الكعبة، وأزهار محبوبة الخديوي، هكذا هي اللعبة الدرامية عند جويدة بتوظيف الحقيقة أمام الرمز.

4- البصمة الأسلوبية: نجح فاروق جويدة في تكوين أسلوب منهجي واضح سواءً على مستوى اللغة وموسيقى الشعر، أو الحبكة الدرامية.

[email protected]        

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة