شهدت الفترة الأخيرة تطورًا وتقدمًا ملحوظًا في مستوى وجودة التعليم الفني والتدريب المهني في مصر، بفضل مجهودات مستمرة ومنظمة من كافة الأطراف وتضافر للجهود وللخطط، سواء على المستوى الحكومي، أو المجتمع المدني أو على مستوى القطاع الخاص ومشاركة رجال الأعمال.
فنرى أن مصر قد تقدمت في السنة الأخيرة فقط 35 مركزًا في مؤشر المعرفة العالمي للتعليم الفني، فأصبحت في المركز الـ46 عالميًا من إجمالي 133 دولة مشاركة في هذا المؤشر، بينما كانت تحتل المركز الـ113 عام 2017. وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أننا على الطريق الصحيح لإصلاح منظومة التعليم الفني والتدريب المهني، وأن وتيرة تحقيق هذا الهدف سريعة وملحوظة.
فبالرغم من أن التعليم الفني مكلف جدًا، سواء في تجهيزاته، أو في تكلفة المواد الخام المستخدمة في التدريب، أو في تطوير وتحديث المناهج، أو تدريب المدرسين ورفع كفاءتهم إلخ، إلا أننا نجد أن القطاع الخاص بدأ يدرك أهمية الموضوع وأهمية دوره ومشاركته في إصلاح هذه المنظومة، ورغبته في وضع استثمارات لتحقيق هذا الهدف، لما له من انعكاس على تحسين كفاءة العامل المصري، وعليه تحسين جودة المنتج المصري، وفتح أسواق جديدة للمنتجات المصرية بالخارج، وكذلك جذب استثمارات أجنبية جديدة لمصر.
فمن العوامل المهمة التي يبنى عليها اتخاذ قرار البدء في استثمارات جديدة في أي دولة هو وجود العنصر البشري المدرب في هذه الدولة.
إذا رجعنا بالذاكرة قليلا، نجد أن التعليم المزدوج دخل مصر في بداية التسعينيات، تحديدًا 1991، وكان النموذج الألماني (مشروع مبارك - كول) هو نقطة بداية تعارف نظام التعليم الفني في مصر لهذا الشكل من التعليم المبني على قضاء جزء من العام الدراسي داخل المصانع لممارسة التدريب العملي والتعرف على المهارات التي تحتاجها المصانع على أرض الواقع.
لاقى هذا النموذج نجاحًا باهرًا وإقبالًا كبيرًا من الطلبة للالتحاق به، وذلك لجودة المحتوى التعليمي المقدم، وجودة التدريب، والحصول على فرص تدريب حقيقية داخل المصانع، وإقبال الشركات والمصانع على توفير فرص عمل لخريجي هذا النظام بمرتبات مجزية فور تخرجهم.
لكن وللأسف الشديد بعد انتهاء المشروع لم تعد جودة مخرجاته (نموذج التعليم المزدوج)، كما كانت من قبل، مثله مثل العديد من المشروعات التي لم يكتب لها الاستمرارية أو عدم ثبات مستوى كفاءة وجودة مخرجاتها بعد انتهاء هذه المشروعات أو بعد خروج الشريك الأجنبي. فتبقى عدم الاستمرارية هي العامل المشترك في كل هذه التجارب.
ونرجع بالذاكرة أكثر، لنلقي الضوء على تجربة أثبتت نجاحها منذ نشأتها في مصر وحتى الآن، ألا وهي التجربة الإيطالية لمعهد الساليزيان دون بوسكو Salesiano- Don Bosco، وهي أول مدرسة فنية صناعية أجنبية في مصر. تأسست في مصر عام 1926 في شبرا، وتم إنشاء فرع آخر بالإسكندرية.
في رأيي أهم ما يميز معهد الدون بوسكو هو: جودة التعليم التي يتم تقديمها للطلبة المنتقاة بعناية للالتحاق بالمعهد، وكذلك تعليم الطلاب اللغة الإيطالية وإتقانها، كما أن الشهادة التي يحصل عليها الطلبة شهادة معترف بها من وزارة التعليم الإيطالية، مما يسهل فتح الأبواب أمام خريجي المعهد لاستكمال تعليمهم؛ سواء في إيطاليا أو في أوروبا.
نظام التعليم في المعهد نظام دراسي لـ3 سنوات أو 5 سنوات، وفيه تخصصات متعددة ومنها: الكهرباء، الميكانيكا، الخراطة، ميكانيكا السيارات، الميكاترونيكس، تكنولوجيا المعلومات والحاسب الآلي. ومن المعروف أن رسوم الالتحاق بالمعهد ليست بقليلة، ومع هذا فإن الإقبال على الالتحاق به كبير ومعايير اختيار الطلبة صارمة للغاية، ونرى أن الطلبة وأولياء أمورهم يحترمون هذه الإجراءات والتعليمات طيلة سنوات الدراسة بالمعهد لتجنب الفصل في أي وقت.
وبعد كل ما تم سرده، كنت دائمًا أتساءل، لماذا لا يتم تكرار تجربة الدون بوسكو مع دول أخرى أثبتت تفوقها في مجال التعليم والتدريب الفني والمهني مثل ألمانيا، والتي نفذت نفس التجربة، ولكن في مجال التعليم العام، ولديها أكثر من نموذج ناجح بالقاهرة والإسكندرية، تحت إدارة وإشراف كامل من الحكومة الألمانية، وهي مدارس DEO وDSB، والتي يتقن فيها الطلبة اللغة الألمانية، ويحصلون على شهادات مطابقة لشهادات خريجي المدارس الألمانية بألمانيا، ويستطيع خريجو هذه المدارس الالتحاق بالجامعات الألمانية دون الحاجة لأي معادلات للشهادة أو المرور بأي تعقيدات للسفر واستكمال الدراسة.
فلماذا لا نعيد نفس التجربة معهم، ولكن في مجال التعليم الفني، لما لدولة ألمانيا من ريادة في هذا المجال، فهم من بدأوا نظام التعليم المزدوج بالعالم، محافظين على هذه الريادة على مر السنوات، وتفوقهم في المجالات الصناعية المختلفة هو خير دليل على هذا النجاح.
فلماذا لا يتم التفاوض بين الجهات المعنية في مصر وألمانيا للبدء في تنفيذ هذا النموذج الفريد من إنشاء مدارس فنية ألمانية على أرض مصر بنفس جودة ومحتوى المناهج الألمانية، وتدريس وإتقان اللغة الألمانية، وحصول خريجيها علي شهادات مطابقة لما يحصل عليها الطلبة الألمان في ألمانيا، وخاصة أن الحكومة الألمانية قد صرحت بأن ألمانيا تحتاج إلى استقدام عمالة مدربة بأعداد كبيرة، تقدر بحوالي 3 ملايين شخص للعمل في ألمانيا خلال السنوات القادمة، لكن بمواصفات خاصة وبشريطة معرفة اللغة الألمانية، فلماذا لا نعتبر هذه المدارس خطوة في تشكيل جيل جديد من الفنيين المهرة المؤهلين للعمل بالسوق المحلية لتحسين المنتج المحلي، أو ليكونوا سفراءنا في الأسواق الإقليمية والدولية.