في توقيت بالغ الأهمية، وظرف شديد الحساسية؛ حيث تشهد المنطقة تطورات خطيرة وتحديات جسيمة، جاء اجتماع مجلس وزراء دفاع التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب بالرياض أمس وما صدر عنه من مخرجات مهمة حملها البيان الختامي للاجتماع، إيذانًا بمرحلة جديدة من العمل المشترك في مكافحة التطرف والإرهاب، تلك الظاهرة التي تهدد الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي،.. وكثيرة هي صور الإرهاب وعديدة هي أشكال التطرف، التي تعصف بمقدرات الشعوب وتنسف حقوق الأجيال ومستقبل الأوطان، وبلغة الأرقام فإن مؤشر الإرهاب العالمي للعام الماضي أكد أن الإرهاب في منطقة الساحل الإفريقي وحدها كان في عام 2023 الأكثر إجرامًا إذ حقق زيادة بلغت نسبتها 50% عن عام 2022، مما يؤكد خطورة الظاهرة وجسامة خسائرها وفداحة فاتورتها.
ولعل مجلس وزراء دفاع التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب الذي تأسس في ديسمبر من عام 2015، بمبادرة من المملكة العربية السعودية جاء ليتصدى لهذه الظاهرة الخطيرة، والذود عن الدول الإسلامية الأعضاء في التحالف جراء هذا الفكر المتطرف الذي يريد أن يعصف بمستقبل هذه الأمة، ويسعى إلى تدمير مقدراتها ومقوماتها، إذ كلفها هذا الإرهاب الأسود فاتورة باهظة في المال والأرواح.
والحقيقة أن المملكة العربية السعودية حين تحتضن هذه المؤسسة، وترعى هذا النهج الذي يشمل الدول الإسلامية الأعضاء في التحالف، فإن ذلك لم يأت من فراغ بل جاء نتاج تجربة رائدة تقوم بها المملكة في مكافحة التطرف والإرهاب عبر إستراتيجية وطنية واضحة وسياسات جلية، تناهض الفكر المتطرف، وتلاحق الأعمال الإرهابية البغيضة وتتصدى لكل عمل يتعارض مع صحيح الدين.
ففي "رؤية المملكة 2030" التي أطلقتها الرياض في عام 2016 تضمنت إستراتيجية واضحة لمكافحة التطرف والإرهاب، إلى جانب خطط وبرامج اقتصادية وتعليمية واجتماعية وتنموية، فقد ركزت تلك الرؤية منذ انطلاقها على معالجة ومحاربة الفكر المتطرف، والأيديولوجيات الحزبية والأنشطة الحركية، عبر أساليب فكرية، محددة مثل ضبط الخطاب الدعوي، والابتعاد عن الأعمال التي تثير الفتن وتنشر العنف، أو تلك التي تسوق لأفكار وافدة تدميرية أو تروج لسياسات تخريبية، وكل ذلك مع إعمال القانون من جانب الأجهزة الأمنية، وتوجيه الضربات الاستباقية للبؤر والمنظمات الإرهابية.
وانطلاقًا من هذا النهج في مواجهة التطرف والإرهاب نجحت المملكة عبر هذه الإستراتيجية التي تترصد الفكر المتطرف وتتتبع منابعه وتتلمس مساراته لتقتلعه من جذوره في تحقيق نتائج إيجابية كان لها بالغ الأثر وعظيم النتائج في مكافحة التطرف ووأد الإرهاب، الأمر الذي جعلها نموذجًا يحتذى ومثالًا يقتدى في مواجهة هذا النوع من الجريمة الخطيرة فقد قامت المملكة عبر هذه الخطة بتنفيذ سلسلة من المعالجات الفكرية انطلاقًا من مبدأ "مواجهة الفكر بالفكر" من خلال إنشاء المراكز الفكرية لتأهيل المتطرفين ومكافحة الفكر المتطرف، وأيضًا تفعيل دور المؤسسات التعليمية داخل المجتمع في شرح صحيح الدين والفكر المعتدل، وكذلك تعديل المناهج، بل وسحب عشرات الكتب وإخراجها من العملية التعليمية، وإبعاد العاملين في المدارس ممن لديهم إيديولوجيات متطرفة، وتكليفهم بأعمال إدارية خارج المدارس، ولم يقتصر تحرك المملكة على هذا الاتجاه، بل سنت التشريعات وأقرت القوانين التي تلاحق كل فكر متطرف وكل عمل إرهابي؛ ليكون رادعًا لمن تسول له نفسه بالقيام بما يعكر صفو المجتمع ويهز استقراره، أو يقطع الطريق أمام مسيرته النهضوية الكبرى.
ويقينًا أن اجتماع مجلس وزراء دفاع تحالف الدول الإسلامية بالأمس، وما تمخض عنه من نتائج مهمة في معركة الإرهاب ستكون له انعكاسات إيجابية محورية في هذه المعركة على استقرار العالم الإسلامي، الذي تتوق دوله إلى التقدم، وتتطلع إلى التطور واللحاق بركب الحداثة، بعد أن عانت واكتوت من ويلات الإرهاب الأسود والفكر المتطرف الذي جلب التخلف، وفجر الأزمات ونسف الخطط والمشروعات.
وهنا أشير إلى أن المرحلة المقبلة تتطلب كل تحرك مسئول من كل الدول الأعضاء؛ لتجفيف منابع الإرهاب واجتثاث جذور التطرف، من بلداننا التي دفعت فاتورة باهظة بسبب هذا الإرهاب الأسود، وفي مقدمها مصر التي عانت منذ ثورة 30 يونيو من إرهاب ممنهج قادته جماعة الإخوان الإرهابية؛ مما كبد الاقتصاد المصري مئات المليارات من الدولارات، إلى أن نجحت الدولة، بفضل تكاتف شعبها وجيشها وشرطتها، في ضرب بؤر الإرهاب والتطرف واجتثاث جذوره.
والمؤكد أن التحرك المشترك لدول التحالف سوف يوفر من الضمانات ما يساهم في إنجاح خطة ضرب الإرهاب والفكر المتطرف، وهنا أشير إلى ما قاله الأمير خالد بن سلمان بن عبدالعزيز وزير الدفاع السعودي ورئيس مجلس وزراء في كلمته الافتتاحية أمام اجتماع وزراء التحالف، إذ أكد الالتزام بتسخير كافة الجهود لمحاربة الإرهاب ومكافحة التطرف؛ لما يشكلانه من خطر على الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي، مشيرًا إلى أن المهمة عظيمة والتطلعات كبيرة وتتطلب تضافر الجهود والتكامل والتعاون والشراكة مع مختلف دول العالم والهيئات والمنظمات الدولية، كما أعلن عن دعم لصندوق تمويل المبادرات بالتحالف الإسلامي الذي أقره اجتماع التحالف بمبلغ 100 مليون ريال، بالإضافة إلى دعم 46 برنامجًا تدريبيًا ضمن مجالات عمل التحالف الأربعة وهي "الفكرية، والإعلامية، والعسكرية، ومحاربة تُمويل الإرهاب".
المؤكد أن التحرك في الاتجاهات المحورية الأربعة في ظل وجود صندوق للتمويل يمثل في مجمله إستراتيجية عمل حاسمة وناجزة في معركة الإرهاب والفكر المتطرف توفر للدول الإسلامية مساحة تحرك ودعمًا لوجستيًا في هذه المعركة، ولعل المحور الفكري في هذه المواجهة يكتسب أهمية بالغة؛ حيث تعتمد الجماعات المتطرفة على الأفكار المضللة، في تسويق مخططاتها وأفكارها الشيطانية التي لا صلة لها بالمنطق ولا بالفكر المعتدل أو صحيح الدين، فهي دائمًا ما تجنح نحو الغلو والتطرف، كما أن الإعلام يمثل سلاحًا مهمًا ومحوريًا في هذه المعركة، إذ تقع عليه فضح هذا الفكر المتطرف، وإسقاط الأقنعة عن وجه الإرهاب الأسود، وكشف زيف ما يدعيه، وإزالة العباءة التي يرتديها للتغرير بضحاياه، واستقطابهم تحت مزاعم واهية، وهنا تجدر الإشارة إلى ضرورة تنفيذ برامج تدريبية للإعلاميين الشبان عبر التحالف؛ للتوعية بخطورة الإرهاب، وسبل تفعيل المحتوى الإعلامي كسلاح ضد الفكر المتطرف، مع استغلال وسائل التواصل الاجتماعي وفعاليتها في نشر ثقافة التسامح، ومواجهة الأفكار الإرهابية، ومقارعة الفكر بالفكر والحجة بالحجة عبر هذه المنصات التي تستغلها أيضًا المنظمات الإرهابية في بث سمومها وترويج أكاذيبها، بغية التأثير على الشعوب خصوصًا في الدول الإسلامية.
بالتوازي مع هذا التحرك يأتي محور تجفيف منابع تمويل الإرهاب كأحد الأسلحة المهمة التي أعلنها اجتماع التحالف؛ وهي في تقديري من المحاور المهمة التي يجب العمل عليها خلال المرحلة المقبلة، من خلال تتبع وترصد حركة الأموال التي تأتي للمنظمات والحركات التي تتبنى الفكر المتطرف، والتي غالبًا ما تستتر خلف الأعمال الخيرية، وتتخفى وراء العمليات المالية غير المشروعة، وتختبئ في عمليات غسل الأموال، وللأسف هناك منظمات دولية عالمية، بل ودول وأجهزة مخابراتية دولية غالبًا ما تمد هذه الجماعات بالمال؛ بهدف تنفيذ مخططاتها لضرب استقرار الدول الإسلامية، وتنفيذ أجندات سياسية تخدم أهدافها ومخططاتها؛ وهو ما يقع في مواجهته وإفساده على التحرك العسكري الذي يتبناه التحالف في معركته مع المنظمات الإرهابية، عبر تفكيك بنيتها التحتية، وضرب بؤر الإرهاب.
وأعتقد أن شعار "محاربة الإرهاب مسئولية مشتركة"، الذي اتخذه اجتماع الرياض، يحمل رسالة واضحة مدفوعة بإرادة لا تنكسر، وعزيمة لا تلين أن هذا التحالف بما حققه من انتصارات قوية في معركة الإرهاب منذ أول اجتماع له بقيادة المملكة في نوفمبر 2017 تحت شعار "متحالفون ضد الإرهاب" سيواصل العمل المشترك والتعاون البناء والتحالف القوي؛ من أجل تجفيف منابع الإرهاب، واجتثاث الفكر المتطرف، هذا النبت الشيطاني الذي لا مكان له في العالم الإسلامي الذي يستظل بسماحة الدين الإسلامي، وينهل بتعاليم الدين الحنيف في التعايش والإخاء بين البشر، ويهتدي بسنة نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أعلى من قيم السلام والحب وهو من قال: «من آذى ذميًا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة»، ومرت به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جنازة فقام لها وقام معه أصحابه، وقالوا يا رسول الله إنها جنازة يهودي، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مرَّت بنا جَنازةٌ ، فقامَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ وقُمنا معَهُ، فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ! إنَّما هيَ جَنازةُ يَهوديَّةٍ ؟! فقالَ: إنَّ للمَوتِ فزعًا، فإذا رأيتُمُ الجَنازةَ، فقوموا»(رواه البخاري)، وقوله: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله والتقوى ها هنا وأومأ بيده إلى القلب".
تلك هي القيم وهذه هي رسالة الإسلام، والدين الصحيح التي يتجاهلها دعاة التطرف وأرباب الإرهاب، وأحسب أنهم هم الخاسرون في معركة تحالف الدول الإسلامية.
[email protected]