كونوا لهم لا عليهم

2-2-2024 | 19:40

كلنا بشر طبيعيون خلق الله بداخلنا فطرة سليمة تؤهلنا لتحقيق ما نرغب فيه وما نتمناه لأنفسنا إلا أن بعضنا يتعرض أحيانًا لظروف تنشئة خاطئة تحد من إمكانياته وتقيد قدراته التي قد تفوق معدل طاقة الأسوياء من حوله؛ مما يؤثر سلبًا على حياته الشخصية والعملية؛ لقد اخترت الحديث عن هذا الموضوع بعد أن قرأت عبارة مؤثرة لكاتبة شهيرة متخصصة في مجال العلاج النفسي، جملة حركتني ودفعت بي للحديث عن هؤلاء الذين يرى البعض فيهم وفي شكواهم ترفًا، وفي تعبيرهم عن أنفسهم وأعراض مرضهم ذنبًا لا يحتمل، وخطيئة كبرى لا تغتفر.  

أخذتني الكلمات وسبحت معها في رحلة طويلة شيدت من حولي أسوارها العالية وأحكمت قبضتها علي كي أكتب ما تحدثت عنه الكاتبة وأصوغه مصقولًا بإحساسي تمامًا كما جال بخاطرها وخاطري، إنها لا تعلم أن مشاعري بالأساس هى من ساقتني وأني قد اخترت الحديث من تلقاء نفسي، الحديث الذي يخشى البعض الخوض فيه؛ فعادة ما تشغلني تلك القضايا المتعلقة بأغوار النفس البشرية وتسحبني معها ببطء شديد؛ كرمال متحركة لأغوص فيها بكامل إرادتي. 

ظهر هذا جليًا في الماضي عندما كنت أدرس مادة علم النفس، حيث كان الإبحار بداخلها غاية تستهويني وتشبع رغبتي، ارتأيت من وجهة نظري أن المكاشفة ليست عيبًا، وأن صدق الإنسان مع نفسه يترك أثرًا طيبًا عليه فيما بعد، أثرًا يرضيه ويوجهه إلى طريق الخلاص من أصعب مشكلاته وأعتاها، فليس هناك ما هو أصعب من ألم المريض النفسي؛ حين يتعرض الإنسان لهزة عنيفة تحيل نعيمه جحيمًا مصحوبًا بشعور دائم بالحزن والوهن، يضطر معه لأداء دوره كآلة صماء، ليلتهمه الحزن في صمت يومًا بعد يوم. 

إن الشعور بالألم النفسي وأخذ القرار بالتعبير عنه أمام المتخصصين في هذا المجال لهو أجرأ قرار يتخذه عقل وقلب هذه الضحية التي نطلق عليها اسم "المريض النفسي"، إنه قرر أن يواجه حقيقته ويحارب ألمه دون زيف ودون تردد، فالأمر لم يكن أبدًا بيديه؛ فمن جنى عليه ما زال حرًا طليقًا يمارس طقوسه في الحياة دون تأنيب لضمير دون وجل أو خجل. 

 كلنا نحتاج إلى الحديث مع بعضنا البعض للتخفيف عن أنفسنا من أثر المشكلات الحياتية واليومية التي تمر بنا، مشكلات نمر بها أو نخبئها دون إدراك منا أو وعي، نقوم بإخفائها بين طيات الزمن، هكذا خلق الله الإنسان كائنًا اجتماعيًا يبغض الوحدة، إلا أن هناك مواقف صعبة أكبر من أن يدرك تحليلها أو فهمها أناس عاديون مثله. 

إن قلب الإنسان المحب للحياة قد تم كسره فلم يعد الحديث العادي ينفعه أو يمكنه من إزالة حزنه وشعوره بالضياع، ولأنه اعتاد الصدق مع نفسه، فهو من قرر وبادر بعرض نفسه على طبيب مختص، وهذا هو عين الصواب، أقدم على اتخاذ هذه الخطوة حتى يتمكن من أداء مهامه في الحياة وأكثر هذه المهام أهمية عنده محاولته الحصول على السعادة ليتمكن من إسعاد الآخرين من حوله، وفجأة تواجهه عاصفة الرفض البلهاء لتجمده، فيعود يلملم أشلاءه محتضنًا أحزانه في صمت خشية سماع نقدكم الجائر والموجع. 

إن الكارثة الحقيقية تكمن في أن مدمري هؤلاء قد يكونوا من أقرب الناس إليهم، من أهلهم أنفسهم، أو من أصدقائهم وزملاء عملهم، من كل هؤلاء الذين لم توبخهم يومًا ضمائرهم، وهم يرون سهام الحزن التي صوبوها نحوهم نجحت في اختراق صدورهم واستوطنت دون رحمة عمق قلوبهم.

ذكرت الكاتبة جملتها الشهيرة لتوضح المعنى الخفي لحقيقة المرض النفسي حين قالت: "في مستشفى الطب النفسي لا يأتي المرضى، بل ضحاياهم"، أوجعتني تلك العبارة وآلمتني، دفعت بي أن أسطر إحساسي وأصوغه من جديد دون خوف من استنكار، دون قلق من نقد أو حرج.

قد يكون الأشقاء الذين عانوا من قسوة أب أو من جفاء أم يعيشون معًا في نفس الظروف، وبرغم هذا فإن وقع الأمر عليهم يبقى مختلفًا ومتعدد التبعات، إن الأثر الكبير لما يراه بعضهم هينًا وبسيطًا لا يخضع لمعايير واحدة؛ فقد تجد من بين هؤلاء الأشقاء من يرى الأمر بمنظار خاص به، يرى الألم بحسب قدرته على التحمل بحسب رهافة حسه ومشاعره أو بدرجة تحمله وصلابته. 

رفقًا بهؤلاء الذين رقت مشاعرهم دون اختيار منهم، حرروا أنفسكم من ذنبهم، أطلقوا سراحهم من معتقل ظلمكم، أخرجوهم من سجن لومكم وتنمركم؛ توقفوا عن هذا واعلموا أن الأدوار يتم تبادلها أحيانًا، فكلنا قصاصات ورق صغيرة تتناثر بين أيدي الأقدار، اعلموا أنهم ضحايا لجهل أو قسوة غيرهم، ساندوهم وكونوا عونًا لهم لا عليهم.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: