لا أجد وصفًا لمسيرة الدكتور مصطفى الفقي المهنية أدق من أنها ظاهرة تستحق التأمل والتمعن، فالرجل قد حلق في الآفاق وبرع في مجالات شتى، ولمع نجمه وبرز اسمه في الداخل والخارج، وحقق نجاحات استثنائية في العقود الأربعة الماضية في الإنتاج الفكري والإسهام الثقافي والمعترك السياسي والعمل التنفيذي في آن واحد.
عمل الدكتور مصطفى سكرتيرًا للمعلومات للرئيس الأسبق مبارك، وسبر أغوار أجهزة الدولة، وتحمل مسئولية دقيقة وهو في سن الثالثة والأربعين؛ حيث الخطأ ممنوع والخطوة مرصودة والكلمة بحساب. أما في وزارة الخارجية فقد جمع الرجل بين رزانة الدبلوماسي وحماس الكاتب، وأذكر أن الدكتور مصطفى تمكن خلال عمله سفيرًا لمصر في النمسا من رسمنة وتقنين وظيفة بائع الجرائد؛ حيث كان يعمل الكثير من المصريين.
كان للدكتور مصطفى نصيب من الإسهام أيضًا في الحياة السياسية في مصر؛ حيث ترأس لجنة الشئون العربية في غرفتي البرلمان في تتابع نادر الحدوث، كما أُختير رئيسًا شرفيًا لحزب الوفد أعرق الأحزاب المصرية. أما درة التاج في رأيي، فهي توليه مسئولية مكتبة الإسكندرية التي أعتبرها رمزًا لحضارة أضاءت العالم، وأملا في استعادة هذه المكانة. ويبدو أن الدكتور مصطفى لم يكتف بهذه الأدوار الضخمة فأبى إلا أن يكون له بصمة أكاديمية متميزة من خلال رئاسته للجامعة البريطانية وتدريسه بالجامعة الأمريكية وأكاديمية ناصر العسكرية العليا، بالإضافة لجامعة جواهر لال نهرو في نيودلهي.
استحق مصطفي الفقي عن جدارة لقب المفكر السياسي، فالرجل له رؤية ورأي في القضايا العربية والعروبية، كما تُنير مقالاته وكتبه - وهي كثيرة- طريق المحللين والباحثين في العلاقات الدولية والقضايا العالمية.
ناقش الفقي رسالة الدكتوراه وهو في سن الخامسة والثلاثين، وجاء عنوانها "الأقباط في السياسة المصرية"، وتراه يتحدث بمحبة كبيرة عن الأقباط وقضاياهم، وأستاذه كان القبطي بطرس بطرس غالي، كما شارك الفقي في إصدار الموسوعة القبطية عام ١٩٩٠، ولم يعلم الفقي -وهو يكتب رسالة الدكتوراه في لندن- أنه سيصبح فيما بعد صديقًا مقربًا من قداسة البابا شنودة الثالث بطريرك مصر.
حاولت أن أفسر ظاهرة الدكتور الفقي ونجاحه الاستثنائي في مجالات متعددة، ولم أجد تفسيرًا جامعًا إلا أن الله قد قدر له هذا القدر من الفلاح والتوفيق، وأن يكون ملء السمع والبصر لسنوات طويلة. ربما يكون السبب وراء هذا النجاح شخصيته المتفردة، فالرجل لديه ثقافة موسوعية وذاكرة فوتوغرافية وحضور لا تخطئه عين، متقد الذهن، حكاء متمكن، يمتلك ناصية الكلام. وربما يكون السبب وراء نجاح الدكتور الفقي هو خليط من الشغف والمثابرة والبدايات المبكرة منذ الطفولة، فقد تزامل مع والدي رحمه الله في المدرسة بدمنهور، وكان طالبًا نجيبًا يقضي فصل الصيف بالكامل في مكتبة البلدية ينهل من ينابيع المعرفة وأمهات الكتب، وكان مسئولا عن اتحاد طلاب محافظة البحيرة، ثم رئيسًا لاتحاد طلاب كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ثم مسئول التثقيف في منظمة الشباب العربي عام ١٩٦٦، كما حصل على الجائزة الأولى في المقال السياسي للشباب من المجلس الأعلى للعلوم والفنون والآداب سنة ١٩٦٦.
أثرى الدكتور مصطفى الفقي العقل والوعي العربي بفكره الثاقب وكتاباته الغزيرة، وأفنى حياته في خدمة وطنه، فاستحق عن جدارة أن يُكتب اسمه بحروف من نور في سجلات التاريخ.