وقائع نادرة فى تاريخ البشرية شهدت تبجيلاً وتشريفاً من جانب العدو للشجاعة التى يبديها رجال الشرطة فى مجابهة الاعتداء. ومنها واقعة الإسماعيلية فى 25 يناير 1952 والتى باتت عيداً للشرطة.. ووساماً على صدر كل شرطي مصري.. وشهادة من الأعداء قبل الأصدقاء على استبسال الشرطة المصرية فى صد عدوان الجيش البريطاني.
سبعة آلاف جندي وضابط بريطاني تحت قيادة "البريجادير كينيث أكسهام" والجنرال "جورج إرسكين" وبحوزتهم الدبابات والمدفعية الثقيلة بهدف السيطرة على محافظة الإسماعيلية التى رفض ضباط الشرطة بعتادهم الخفيف وأسلحتهم المتواضعة، وعددهم القليل، تسليمها للعدو، واختاروا المقاومة حتى آخر رصاصة. وانضم إليهم بعض المدنيين من الأهالي. سقطوا جميعاً ما بين قتيل وجريح وأسير، ورغم سقوط 18 قتيلا و12 جريحا فى صفوف العدو البريطانى، أمر قائدهم "أكسهام" بأداء التحية العسكرية لمن تبقى من الشرطة المصرية لانبهاره بفدائيتهم النادرة.
كانت تلك الواقعة سبباً لما تلاها من أحداث: ثورة المصريين، ثم حريق القاهرة المدبَّر، ثم حركة الضباط الأحرار التى تحررت على أثرها مصر من قبضة الاحتلال وأعلنت استقلالها بعد بضعة أشهر من واقعة الإسماعيلية الشهيرة.
فماذا لو أن الشرطة اختارت التسليم وقتذاك؟ ربما استسلم الشعب كله لاستسلامهم. غير أنهم ضحوا بأرواحهم فداء قضيتهم ومبادئهم.
القوى الاستعمارية تاريخياً هدفت لتهميش أو إفساد أو تحييد أو استمالة قوتى الجيش والشرطة لضمان البقاء والولاء المطلق لهم.. لكن الشرطة المصرية آنذاك ضربت أروع مثال فى الوطنية والانتماء والفدائية.
أصلاً كلمة الشرطة مستقاة من معنى الفدائية والتضحية بالروح..
فمعنى كلمة الشرطة يشير إلى أول كتيبة من الجيش تواجه العدو فى الحروب، وفى الخبر الذى وصف فيه ابن مسعود فتح العرب للقسطنطينية قال: "يستمد المؤمنون بعضهم بعضاً فيلتقون، وتشرط شرطةً للموت لا يرجعون إلا غالبون".. فالشرطة هنا بمعنى العهد: "النصر أو الاستشهاد".. وهو ما حدث فى واقعة الإسماعيلية.
لعبة الألقاب والانتماءات
استقر اسم جهاز حفظ الأمن الداخلى على أحد اسمين: الشرطة، والبوليس. الأول له أصل عربي خالص، وكان "علي بن أبي طالب" أول من استخدمه.. بينما كلمة "police" ذات الأصل اللاتيني فهي تعني عند قدماء الإغريق: "المدينة". بمعنى التحضر والازدهار، ما يشير إلى الدور الأصيل الذي يلعبه حفظ الأمن فى التنمية وصناعة الحضارة.
غير أن هذه التسمية تغيرت على مدار العصور، مع تغير صبغة القيادة الحاكمة والنظام العام للدولة.
ففى العصر المملوكى تغيرت تسمية الشرطة إلى "الولاية"، وأطلق لقب "الوالى" على صاحب الشرطة.. وكان في القاهرة وحدها ثلاثة ولاة: والي القاهرة، ووالي الفسطاط، ووالي القرافة.
بالتالي تغيرت ألقاب الرُتب.. فهناك مساعدون للوالي: وهم نائب الوالي، والنقباء، والمشاعلية الذين يشبهون "العسس" على عهد عمر بن الخطاب، وهم المسئولون عن حفظ الأمن ليلاً.
أما أفراد الشرطة أنفسهم فكان يُطلق عليهم: "الخفراء" أو "الأدراك" ، وبعضهم كان يتقاضى أجره مباشرةً من أصحاب المتاجر والدور.. لهذا انتشرت "الفتونة" فى تلك الفترة.. لأن المدنيين اشتركوا فى حفظ الأمن، وجمع الإتاوات من المنتفعين من خدمة الأمن!
تغيرت مسميات الشرطة على عهد العثمانيين تغيراً جذرياً واسعاً.. فالشرطة أصبحت "الانكشارية"، تم تقسيمها إلى سبعة فرق تسمى "الوجاقات".. يقف على رأسهم جميعاً "أغا الانكشارية" وهو بمثابة "رئيس الشرطة".. ونائب الأغا يٌدعَى: (كتخدا، أو كخيا) .. ثم "باش اختيار"، ثم (الدفتردار، والخازندار، والروزنامجي).. ومن هؤلاء جميعاً يتألف ما يدعَى (الديوان) أو "مجلس شورى محمد على باشا".
ثم هناك ولاة الشرطة الذين يعرفون باسم: الزعماء أو الصوباشية. ثم الضباط وهم " مقدمون، ونقباء، وملازمون".. وهناك "القلقسات" أي ضباط نقط الشرطة، و"السناجق" أى البكوات من زعماء المماليك ممن أسند لهم حفظ الأمن خارج العاصمة فى الأقاليم. ثم "الشوربجية"، ثم الخفراء.
هكذا تم صبغ أجهزة الأمن بالصبغة العثمانلية. وازداد ضعف جهاز الشرطة فى عهد الاحتلال البريطاني الذى عزز فصل الشرطة عن الحربية، وحصر قيادتها على الضباط الأوروبيين، وقسم الشرطة إلى قسمين: قوات البوليس، وقوات الجندرمة وهى أشبه بالأمن المركزي الحالي.
وفي فترة الحكم الملكي، أي منذ إلغاء الحماية البريطانية على مصر عام 1922 بدأ نظام الشرطة المصري يكتسب نوعاً من الاستقلالية، أتاح له تطوير أدواته وأنظمته فأنشأ إدارة المباحث الجنائية وإدارة الأمن السياسي.. كما أدى ارتفاع تعداد المركبات إلى إنشاء قلم المرور.
ورغم أن الاستعمار فى كل مرة حاول السيطرة على ولاءات رجال الشرطة.. إلا أنهم أثبتوا أن انتماءهم الأول والأخير للوطن.. بدليل ما حدث فى واقعة الإسماعيلية.
التوسع الإداري والتقني
نتيجة التطوير والتوسع المستمرين فى جهاز الشرطة المصري.. بات ترتيبه الثالث عالمياً.
قطاعات وإدارات عدة تم تحديثها أو استحداثها، كما تم رفع كفاءة التدريب وقيمة ميزانية الشرطة لتزويد الجهاز بأفضل التقنيات العالمية الحديثة خاصةً فى مجال تحقيق الأدلة الجنائية، وفى إدارات الأسلحة والذخيرة والاتصالات ومباحث الإنترنت.
الشرطة النسائية نالت نصيبها من التطوير على مدار السنوات الماضية، سواءً فى التدريب أو التوسع فى الاختصاصات وإسناد المهام، كما انصب اهتمام المسئولين على الجانب التدريبي والمهنى فى أكاديمية الشرطة ومعهد تدريب الأمناء ومعهد الضباط ومركز بحوث الشرطة والمعهد الأمنى للتنمية البشرية.
هكذا عادت الشرطة لتحقيق الأمن على أساس مهني احترافي.. لا على أساس فوضوي.
هناك نجاحات لإعادة بناء الثقة والتفاهم والاحترام المتبادل بين رجال الشرطة والمواطنين..
أرقام الإنجازات اليومية لمكافحة الجرائم وتنفيذ الأحكام تشير إلى مدى ما وصلت إليه الشرطة من حرفية وتميز.
الأمن الملموس الذي يستشعره المواطن والسائح كلاهما.. رفع من نسب السياحة، كما ساهم في تحقيق الإنجازات المدنية الحضارية.. فلا مدنية ولا تنمية بدون أمن.
تحية لرجال الشرطة في الماضي والحاضر.. تحية للضمائر اليقظة والقلوب النابضة بالوطنية والفدائية والانتماء.
[email protected]