الآن فقط أدركت، وأدرك معي كل المصريين، ماذا كان يعني الرئيس عبدالفتاح السيسي، وكيف كان يقرأ المستقبل عندما قال: "محدش يتصور ما هو مدى قدرتنا، عمري ما اتكلمت كده علشان ميتفهمش إننا بنهدد حد".. كلام القائد والزعيم ينسحب على كل ما يهدد الأمن القومي المصري، الذي هو الشغل الشاغل للدولة المصرية، وكان الرئيس يدرك مبكرًا جدًا بحسه السياسي أن الأمور في المنطقة تتجه إلى منحدرات غير مسبوقة، لذا حرص على أن يبعث برسالته القوية، ويحدد الخط الأحمر لكل من تسول له نفسه إقحام مصر في أي مخططات للمنطقة.
لم تتخل مصر في يوم من الأيام عن القضايا العربية بصفة عامة، وعلى وجه الخصوص منها القضية الفلسطينية، ولم تترك منبرًا إلا وأكدت من فوقه دفاعها عن الشعب الفلسطيني، وعن حقه الكامل في إقامة دولته على أراضيه التي احتلها الكيان الصهيوني، ولم تدخر جهدًا في مساندة القضية، والتأكيد على حل الدولتين الذي يطلبه العالم اليوم، ويرفضه الاحتلال.
وإذا كانت مصر لم تترك بابًا إلا وطرقته، ولا مسارًا إلا واقتحمته، في سبيل الدفاع عن حقوق الأشقاء العرب المشروعة، فإنه من الأولى ألا تفرط في الأمن القومي المصري، وألا تسمح لأحد بمجرد التفكير في تهديده.
ويبدو أن حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال بلا رحمة على شعب أعزل لأكثر من مائة يوم، لم تروِ ظمأه للدماء، لا يفرق بين الأطفال والنساء والشيوخ، ولم يحقق من وراء اعتدائه الغاشم ما خطط له ويسعى له مع حلفائه، فاهتزت الأرض تحت أقدام حكامه، فخرجت التصريحات في الفترة الأخيرة، على غير العادة، مندفعةً، طائشةً، غيرَ منضبطة، تنحدر إلى حد الأكاذيب والادعاءات التي لا تقبلها مصر قلبًا وقالبًا، وترفضها رفضًا شديدًا، وتؤكد القدرة غير المحدودة في الدفاع عن الأمن القومي المصري، مهما كان الثمن.
إن الكيان الصهيوني لا يدرك خطورة أن يُقحم مصر في أزمات المنطقة، ولا يعرف مغبة تهديد أمنها القومي، وخرْق ما حددته المعاهدات الدولية، فزعيم مصر لا يقبل بهذا، ولن يسمح به.
وقد شهدت الفترة الأخيرة عدة تصريحات لمسئولين إسرائيليين، على رأسهم رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو، تحمل مزاعم وادعاءات باطلة حول وجود عمليات تهريب للأسلحة والمتفجرات والذخائر ومكوناتها إلى قطاع غزة من الأراضي المصرية بعدة طرق، ومنها أنفاق زعمت هذه التصريحات وجودها بين جانبي الحدود.
مخيم الإيواء الذي أقامته مصر للأشقاء الفلسطينيين في خان يونس بقطاع غزة
كيف يقول رئيس الوزراء الإسرائيلي ذلك، وكل دول العالم تعرف جيدًا حجم الجهود التي قامت بها مصر في السنوات الأخيرة، لتحقيق الأمن والاستقرار في سيناء، وتعزيز الأمن على الحدود بين رفح المصرية وقطاع غزة، حتى أصبح هناك ثلاثة حواجز بين سيناء ورفح الفلسطينية، يستحيل معها أي عملية تهريب لا فوق الأرض ولا تحت الأرض؟!
ويبدو أن الإسرائيليين فقدوا توازنهم بعد فشلهم في الحرب الدائرة حاليًا، فقد تناسوا أنهم يسيطرون عسكريًا على القطاع، ويملكون أحدث وأدق وسائل الاستطلاع والرصد، كما أن الحصار البحري محكم على القطاع، بالقدر الذي تسيطر به مصر بشكل تام على كامل حدودها الشمالية الشرقية، سواء مع قطاع غزة أو مع إسرائيل.
إن إسرائيل تريد أن تبرر استمرارها في عملية العقاب الجماعي والقتل والتجويع لأكثر من مليوني فلسطيني، فتطلق تصريحات مثيرة للسخرية حول أن عمليات التهريب تتم عبر الشاحنات التي تحمل المساعدات والبضائع لقطاع غزة من الجانب المصري لمعبر رفح، ألا يعلمون أنهم يفتشون جميع الشاحنات التي تدخل إلى القطاع، ويتسلمها الهلال الأحمر الفلسطيني والمنظمات الإغاثية التابعة للأمم المتحدة مثل "الأونروا".
إن العالم يشهد لمصر بأنها دولة تحترم التزاماتها الدولية، بالقدر نفسه الذي تستطيع به الدفاع عن مصالحها والسيادة على أراضيها وحدودها، وما تروج له إسرائيل، لخلق شرعية لاحتلال ممر صلاح الدين "فلادلفيا"، يهدد بشكل خطير العلاقات بين البلدين.
أما الأغرب فهو الاتهام الإسرائيلي لمصر في محكمة العدل الدولية بأنها هي التي تمنع وتعوق دخول المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، مع أن مصر لم تغلق معبر رفح من جانبها ولو للحظة واحدة، وهم الذين يفعلون ذلك طبقًا لتصريحات علنية منذ بدء العدوان على غزة، حتى إن الأمين العام للأمم المتحدة زار معبر رفح من الجانب المصري، ولم يتمكن من عبوره لقطاع غزة، لمنعه من جانب الجيش الإسرائيلي، أو بسبب القصف الإسرائيلي المستمر.
ويدرك الإسرائيليون تمامًا أن مصر تملك جيشًا عظيمًا قادرًا على حماية حدودها بكل الكفاءة والانضباط، ولن تنجح هذه الادعاءات، إلا في جر المنطقة إلى ما لا تُحمد عقباه، فهل توقفوا عن تلك الأكاذيب قبل فوات الأوان؟!