من فعل هذا؟ وفى أى عصر؟
لا نعرف على وجهة الدقة، كيف تحول الإقليم العربى إلى منطقة رخوة، ومكب لأحلام القوى العظمى؟ هل فى القرنين الماضيين مع تصاعد نبرة الاستعمار والغزو، أم مع مغامرة الكشوف الجغرافية، والاندفاع الأوروبى للسيطرة على أراض جديدة غير معروفة، أم مع بزوغ عصر الأنوار الأوروبي؟ ولماذا لم يصب الإقليم العربى من هذا العصر إلا مزيدا من التخلف والتبعية؟ وهل يمكن التعايش والتكيف مع هذه الحال للأبد؟
إبادة «الفلسطيني» الأخير فى أرضه الأصلية إجابة ساخنة عن بعض هذه الأسئلة، فهو الكائن الذى وقع عليه الاختيار، ليكون شاخص التنشين فى ميادين السياسة العالمية، والرسالة الدامية والمخيفة لإرهاب أشقائه المتجاورين، وأشقائه البعيدين، وهى نفس الرسالة الملغومة إلى تخوم الإقليم العربى من قوى غير عربية، كانت ولا تزال راغبة فى الانخراط فيه، وتشكيل مستقبله تبعا لمصالحها القومية، أو طمعا فى استعادة تاريخ بائد، كانت تسيطر فيه على أبعاده الكاملة.
والفلسطينى الأخير، كمكان وزمان، مثال فريد على إمكانية تجريب كتابة تاريخ، لا ينتمى إلى سلسلة أحداث متعاقبة كالمعتاد، إنما تاريخ ينتمى إلى دوائر منقوصة، كلما اقتربت من الاكتمال، يتم قطعها بفعل فاعل معلوم.
وقع الاختيار على مكانته ومكانه، وتم السطو على زمانه، تكاثرت عليه أفكار عقائدية عتيقة، وقوى عسكرية، وتنظيمات عابرة للحدود، وهو بدوره كان لا يرى حدود الخطر، كمجتمع رعوى زراعي، تتحكم فى مصيره قوى خارجية، عمدت إلى أن تجعله مجتمعا منفصلا لا متصلا، على نحو ما أشار إليه أكثر من مفكر أو مؤرخ فلسطيني، وعندما اقترب من التماسك فى بعض المحطات، اندفعت قوى محلية وإقليمية ودولية لتكسر هذا التماسك الهش.
كانت تجربة النكبة عام 1948 دليلا على هذه الهشاشة، لكنه يتعلم الآن فى المعركة المصيرية الراهنة، ولا يريد أن تتكرر التجربة القاسية، برغم أنه يدفع ثمنا لم تدفعه أوروبا الغربية فى حروبها المتوالدة، ويتمسك بالأرض، المعنى والزمن، لا بكلماته أو شعاراته وحسب، بل بالفعل الحي، فهو يدفع من دمائه راضيا مرضيا، مصمما على الاستزراع هذه المرة فى بلاد، لم تتوقف عن الموت منذ ما يزيد على القرن.
الفلسطينى ليس ذلك الكائن الذى عاش من قبل فى مساحة جغرافية لا تزيد على 28 ألف كيلومتر مربع، تم اقتطاع 22 ألف كيلومتر مربع منها، وإعطاؤها لمستوطنين من شتى بقاع الأرض، إنما هو الرسالة المتطايرة إلى جميع مساحة الإقليم العربية، فالجبهة فى فلسطين، لكن القتال فى كل بيت عربي.
هذا هو واقع الحال، أرادوا ألا يصل الإقليم ماضيه بحاضره، وألا تنخرط المدينة العربية فى عصر الصناعة العظيم، ولا تستلهم أطياف الحداثة أو ما بعدها، ولا تقترب من تخوم الذكاء الاصطناعى أو جنون التكنولوجيا، ولا عصر الأفكار.
كانت إرادة القوى العظمى، أن تظل هكذا دون أن تستلهم ما يدور فى العصر الراهن، وتركها كمحطة صالحة للمعارك أو إرسال الرسائل منها وإليها، وقتما ترغب.
وهذه القوى ترغب الآن فى سيطرة نهائية على مسار الأرض، وتنظر إلى الوقت الراهن الهش، كفرصة لا يمكن تكرارها، فتندفع بأساطيلها النووية، وقواعدها العسكرية، وتفتح مخازن ذخائرها الفتاكة لحليفتها إسرائيل، كرسالة تخويف لكل من يفكر أن يجيب عن السؤال الحقيقي: منذ متى كان التفكير فى جعل الإقليم العربى مجرد ساحة رخوة، صالحة لتجريب السلاح؟
هل هو بالفعل ساحة رخوة، يمكن أن يتم فيها تشكيل النظام العالمى المرتقب؟
أعتقد أن هذا التفكير ينتمى إلى عصور ميتة، لا تصلح أن تعيش مرة أخرى، والشاهد أن أصحاب هذا التفكير فى حاجة إلى خروج آمن من التاريخ.