تمر المواقف والكلمات على البعض منا مصطبغة بصبغة عادية لا أثر فيها لتخطيط مسبق أو لتفسيرات أخرى خفية، إلا على هذا الإنسان الذي اعتاد أن يرى الكون بعين ثاقبة، ببصيرة حادة لاتحتمل شكًا أو تحمل ظنًا في غير محله؛ فبين ثناياها تحل أنوار من الله قدسية، أنوار تمكنه من قراءة الآخرين دون جهد منه أو عناء، فقراءة هؤلاء الذين احترفوا تلحين أقوالهم ودس كذبهم ومكرهم فيها خفية تتحول في ثوانٍ إلى حقيقة تتحرك وتتجسد أمامهم في صورة واضحة جلية.
إنها فراسة المؤمن الذي صدق مع الله وعده فرزقه بصفاء النفس ولين القلب وسلامة النية، رزقه القدرة على الإبحار والغوص بين الكلمات والمواقف التي تصطف أمامه وتنطوي على مكر أو خداع، على طباع بالحقد والحسد مروية ليراها ويلمس قسوتها دون أن يقع في مستنقعها حتى وإن تمكنت من التمويه والتخفي أو الاكتساء بحلة حريرية ذات ألوان وردية.
إنه الإيمان الذي يترجم علاقة كل منا بربه؛ حيث لا يوجد رياء أو تزييف لمعاني الحب والإنسانية، هناك حيث الطهر والصفاء ستجد ذاتك وستتعلق روحك بصاحب الفضل الأوحد على هذه الأرض الذي من عليك وقربك إليه، الذي حماك بحصنه المنيع الباقي كي تسلم له نفسك وتفخر بعبوديتك له، ثم ترتقي بها كل يوم حتى تصل لمرحلة الشعور بالهدوء والسلام والملائكية.
ابتسامتك الرقيقة تعكس ما بداخلك وحديثك الطيب ينبئ عنك، صدقك يزينك ويمنحك مالم يملكه أحد غيرك، شفافيتك تضيف إليك جمالًا لايقرؤه فيك إلا من كان يشبهك، قليلون هم، لكنهم موجودون وحاضرون، ترى فيهم صمام أمان وتجد معهم أماكن مشتركة تكتظ بالآمال والأحلام برغم الصورة القاتمة التي تحيط بهم؛ فطبيعتهم الجميلة التي حباهم بها الله تزرع الأمل فيهم، ترعاه وتحصده وتمنح النصيب الأكبر منه لمن صفت لهم نفوسهم، لمن تغلبوا على فتن دنياهم واشتروا بزخرفها الزائل كل آخرتهم.
تتراقص الدنيا أمام أعينهم وتبعث من أنوارها فتنًا خداعات، ترسل بإشارات لمن ألفوها وفضلوها، تشير إلى روادها ومحبيها الذين تعلموا على يدها معنى التقلب وعدم الثبات على مبدأ أو حال، لا ينجو من محاولاتها البغيضة إلا القليل ولا يسعد فيها إلا من ارتضى بفطرته، وإن عاب عليه كل من حوله تلك الصفات الطيبة والقيم الأصيلة.
إن القراءة والتبحر في خفايا النفوس البشرية منحة إلهية لا يحظى بها إلا من كان لها، ستكتشف هذا عند مجالسة أصفياء القلوب، ذوي الأرواح الطاهرة الذكية، ستجدهم يتنفسون نقاءً وينضحون عطاءً وقد ارتووا جميعًا من عين ماء امتزجت برذاذ عطر أبدي، يرون عالمهم الفاقد لصوابه دون خوف أو قلق منه، يتابعون أحداثه بنفس آمنة مطمئنة.