للوهلة الأولى، استبشرت خيرًا، فور سماعي نبأ قرار وزارة الداخلية البريطانية تصنيف "حزب التحرير" كمنظمة إرهابية، لكن ما إن غصت في التفاصيل، لمعرفة حيثياته ودوافعه القوية والعادلة لحماية الجبهة الداخلية، انقلب الاستبشار إلى امتعاض واستياء، لأنه عكس تناقضًا مقيتًا في السياسة البريطانية وازدواجية واضحة للغاية.
فقد استندت حكومة "ريشي سوناك"، في قرارها على أن "حزب التحرير" يجاهر بمناهضته إسرائيل والسامية، ويدعم حركة "حماس" الفلسطينية، المصنفة بريطانيًا كإرهابية، وما قامت به ضدها في السابع من أكتوبر من العام الماضي، هكذا الأمر إذن، فالغرض السامي لم يكن تأمين البلاد من خطر محتمل من جماعة، أو جماعات تتخذ من العنف والتفجيرات وقتل الأبرياء سبيلًا لتحقيق أهدافها الإجرامية والخبيثة، والاستعداد لمعاونة أطراف خارجية تساير منهجها الإرهابي، بل إرضاء "تل أبيب"، ونيل استحسانها وعطفها الغالي.
ومبعث التناقض الذي أشرت إليه أعلاه له شقان: الأول أن لندن ربت في حجرها ثعابين كثيرة، ممثلة في جماعات إسلامية متطرفة ولها تاريخ أسود في التحريض على الدول المنتمين إليها، واستهدافها بعمليات إرهابية، وتحججت بأنها تحتضنهم لكونهم ملاحقين ومضطهدين ويحق لهم التعبير عن آرائهم بحرية تامة، ووفرت لهم كل الوسائل الكفيلة بحمايتهم، ولم تتكاسل عن الإنعام على بعضهم بجنسيتها.
وتغاضت بريطانيا عن مناشدات ومطالبات العديد من البلدان العربية للتدخل ووضع حد لحملات التحريض والكراهية التي تشنها هذه الجماعات المارقة، ومن بينها جماعة الإخوان الإرهابية التي يقيم كبار قادتها وأذرعها الإعلامية على أرضها، ويعقدون اجتماعاتهم ومشاوراتهم عليها، ويبثون منها سمومهم وأحقادهم وشائعاتهم على مدار الساعة، ويدعون بخسة منقطعة النظير لمهاجمة قوات الجيش والشرطة، ومنشآت الدولة.
أليس هذا إرهابًا صريحًا لا لبس فيه ويستوجب مواجهته والقضاء عليه، لكن لندن أغمضت عينيها، وسلكت درب التجاهل والتماس الأعذار الواهية، لأنها من وراء الكواليس تستغل هذه الجماعات التي تربت وترعرعت في كنفها كأداة ضغط على المتضررين من أنشطتها الهدامة، وأحيانًا بالنيابة عن طرف ثالث، مع أن العقلاء في دوائر صناعة القرار لديها يدركون أنه لا أمان لتلك الجماعات، لأنها تبدل بسهولة ولاءاتها خلال ثانية واحدة لمَن يمنحها تمويلًا أكبر.
الشق الثاني: أن "سوناك" وحكومته يتعاطيان مع المبدأ الواحد بمكيالين مزدوجين، فإن كانت الحكومة البريطانية حريصة بهذا الشكل ولا تنام ليلها من قلقها وسهدها من معاداة إسرائيل والسامية، ألا ترى أن الفلسطينيين يتعرضون للإبادة والتصفية في أحقر وأحط أشكالها، ويواجهون عداءً سافرًا يخالف كل القوانين والأعراف الأخلاقية والإنسانية من داخل إسرائيل ومَن يؤازرها، وأن العدل والإنصاف يقضيان باستحقاقهم المعاملة بالمثل وإدراج تجمعات وكيانات عندها تبيح قطع نسل الفلسطينيين وإلقاءهم في البحر ضمن قائمة التنظيمات الإرهابية، وتوفيرًا للجهد فإنها لن تقدر على فعل ذلك، خوفًا من غضب إسرائيل واللوبي الداعم لها في بريطانيا.
غير أن هناك بعدًا آخر لابد من التطرق إليه، هو أن الإمبراطورية البريطانية، حينما كانت في أوجها وعافيتها بادرت إلى قتال الزعيم النازي "أدولف هتلر"، لما مثله من أخطار على الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير، وإقدامه على احتلال أجزاء من القارة الأوروبية ضمن مخططه لإقامة إمبراطورية "الجنس الآري"، بل واستضافت قيادات المقاومة الأوروبية وزودتها بالمال والسلاح والرجال والمعلومات الاستخباراتية، وتفاخرت بدورها التاريخي هذا، وأدانت ما تعرض له اليهود وغيرهم في معسكرات الاعتقال النازية، أليس ما يكابده الفلسطينيون اليوم مطابقًا وممثلًا للوضع نفسه الذي تقدمت الصفوف في الحرب العالمية الثانية لقطع دابره وتأثيمه وتجريمه بأشد وأقسى العبارات والأفعال، فلماذا تصمت عليه ولا تحرك ساكنًا، وتفضل جانب المعتدي على الضحية؟!
لذلك فالفرحة كانت منقوصة وضاع نصفها المبهج.