لحظة فريدة لم يخطر ببالي يومًا أن أعيشها، وأظن كل الظن أنها لا تخطر على بال أحد على الإطلاق، المفاجأة هي عشقها وعادتها التي لن تغيرها، تباغتك دون أن تشعر فتجد نفسك أمام زميل أو قريب أو جار، وبعد التحية والقبلات الحارة تكتشف مرور عشرين أو ثلاثين وربما أربعين عامًا على آخر لقاء بينكما.
تحدثت في عدة مقالات تحت عنوان "الزمن الجميل" عن معايشتى تلك اللحظة، لحظة لقاء الأصدقاء بعد مرور هذا الزمن الطويل، وكيف لا يشعرون بما مضى من العمر، تحدثت عنهم وهم ما زالوا يرون أنفسهم هؤلاء الصبية الذين يتنافسون للحصول على أعلى الدرجات ويلعبون ويلهون ضاربين بالدنيا وما فيها عرض الحائط.
وبمنتهى الصدق أقول إننا لم نشعر خلال لقاءنا إطلاقًا أننا قد تجاوزنا الخمسين، بل شعرنا أننا ما زلنا أبناء الرابعة عشرة نقف على باب المدرسة ننتظر نتيجة الإعدادية لا أكثر ولا أقل، لدرجة أننا كنا ننادى بعضنا البعض "يا شباب" طوال جلستنا، دون أن ننتبه لوجود أبنائنا "الشباب" الذين يجلسون بيننا يجاملوننا بابتسامة لن يحزنني إن علمت أنها ابتسامة ساخرة من هؤلاء الشيوخ فاقدي الوعي الذين ما زالوا يتصورون أنهم شباب، وربما كانوا يتعجبون ويتساءلون عن سر هذا الأمل الذى يرونه على وجوهنا، أو تلك اللامبالاة للزمن الواضحة وضوح الشمس في حديثنا.
أردت أن أفسر لهم الأمر لكنني فضلت أن أترك الأيام تقوم بمهمتها، ليعلموا بعد حين السر وراء حرصنا على ذلك اللقاء الذى يخرج بنا إلى ما وراء الواقع الذى نعيشه، لنراه كما نحب أن نراه، نضحك على أنفسنا بعض الدقائق، نعم ولم لا؟ غدًا سوف يفعلونها.
فى أحد اللقاءات مع بعض الأقارب رأيت شابًا صغير السن يأتي نحوي، ظننتني أعرفه، يا إلهي لا ليس هذا ظنًا نعم أنا أعرفه جيدًا، هذا هو الشاب الذي تزوج ابنة خالى وحضرت زفافهما، وصرخت فيمن حولي أليس هذا هو فلان، وأبديت تعجبي في أذن أحدهم، حتى لا يتصورون أنني أحسده، فقد لاحظت أن شكله لم يتغير أبدًا عن آخر مرة رأيته فيها، فوجئت بمن حولي يضحكون بصوتٍ عالِ ويقولون لي لا ليس هو بالتأكيد... إنه ابنه! ماذا؟ ابنه! لقد كان نسخة من أبيه! وفجأة شعرت أن مطرقة كبيرة تهوي فوق رأسي لتفيقني وتنبهني أن هذا الزفاف قد مر عليه ثلاثون عامًا!
عندما تقابل زميل دراسة وتشرع فى أن تسأله عن أحواله، أراهن أنك تنتظر أن يحكى لك عن نجاحاته التي يحققها في العمل أو ربما تنتظر أن يخبرك بوصول مولوده الأول، فتفاجأ به يسبقك بالحديث عن قلقه لاقتراب خروجه إلى المعاش، وحيرته فيما سوف يفعله بعد ترك العمل، أو يخبرك بوفاة زوجته وحيرته فى تدبير شئون أولاده، فتهوي نفس المطرقة على رأسك لتتذكر أنك التقيته آخر مرة يوم ظهور نتيجة الثانوية العامة، وتدرك أن هذا اللقاء مر عليه أكثر من ثلاثين عامًا! ثم تدرك أنك قد اقتربت أيضًا من نفس خط النهاية الذي نسيته أو ربما تناسيته متعمدًا، لا يا صديقي أنت تسير معه على نفس الطريق، فكيف مر كل ذلك العمر؟!
رحلة لابد لها من نهاية، حقيقة لا مفر منها، وكعادتي في البحث عن نصف الكوب المملوء أرى أن الرائع في تلك الرحلة هو أن يجد المرء لنفسه صفحات مملوءة بالذكريات والتجارب يحكيها لأبنائه وأحفاده، أرى ذلك قمة الروعة؛ لأن معنى ذلك أن عمرك لم يمر هباءً، أنك عشت كل لحظة وبات لك فيها ذكرى جميلة أو ربما سيئة، لا يهم فهذه هي طبيعة الحياة، المهم أنك عشت وجربت.
أقول ذلك لأنني رأيت أناسًا ليسوا قليلين ممن قضوا حياتهم، ولا أقول عاشوها فهو وصف أراه لا ينطبق عليهم، قضوها كلها منغلقين على أنفسهم، خائفين من التجربة، بداخلهم رهبة من كل ما هو جديد وغريب، قضوها منعزلين تمامًا، لا ذكرى لديهم لأيام مميزة، ولا ذكرى لدى أحد عنهم، هم عبارة عن صفحة بيضاء ليس بها سوى سطور قليلة متكررة ما بين أربع أو خمس كلمات مثل نام، صحا، ذهب، أكل، أتى، ثم تتكرر كل يوم بنفس النمط الممل.
عندما أجلس مع أبنائي ونتحدث عن أمر ما، وأجد في جعبتي ذكرى تخص هذا الأمر وأحكيها لهم، أشعر بسعادة غامرة، وأخبرهم بذلك، أخبرهم بسعادتي أن أيام عمري مليئة بالخبرات والحكايات، مليئة بالأصدقاء، مليئة بذكريات يمكن أن أحكيها.. ما معنى ألا يجد المرء - وقد بلغ الأربعين أو الخمسين من العمر– شيئًا في رحلته يحكى عنه.
الأمر بالطبع لا يتعلق ولا يتوقف على الزواج والإنجاب والنجاح المبهر في العمل، بل على قدرة الإنسان أن يحيا وسط الآخرين، ويترك أثرًا وذكرى تدل عليه كلما ذكر اسمه، ما أجمل أن يرحل الإنسان ويترك خلفه أناسًا يتذكرونه بابتسامة رقيقة كلما أتى طيفه.
عش حياتك وابن لنفسك قصرًا، بل قصورًا من الذكريات، امتلك حكاياتك الخاصة التي سوف يأتي يومًا لتجلس وتحكيها لمن حولك، صدقني، أصعب شيء أن تجلس بعد مرور العمر لتستمع فقط إلى حكايات الآخرين وذكرياتهم، وجعبتك خالية من أى شيء.