للمرة الأولى منذ قيامها، تقف إسرائيل فى قفص الاتهام الدولي بفضل ما حدث في السابع من أكتوبر واستمرت نتائجه الهائلة تتراكم، حتى تُوجت بمحاكمة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية!
إن ما فعلته المقاومة الفلسطينية على مدار ما يقارب مائة يوم يشبه المعجزة التي لم يسبقهم إلى مثلها أحد.
إنها ملحمة سطرتها المقاومة الفلسطينية بحروف كتبتها بدماء الشهداء سطرًا من ذهب وسطرًا من لهب مستعر أكل وجوه أعداء الإنسانية من النازيين الجدد.
ومهما تكن نتائج تلك المحاكمة التي تُعد بلا أدنى مبالغة محاكمة القرن، فإن إسرائيل باتت مدانة فى أنظار العالم، ولسوف تستمر خسائرها كلما تمادت فى تجبرها عدوانها الغاشم حتى تصل حتمًا إلى نقطة اللاعودة.
مانديلا يحاكم أعداء الإنسانية!
إنها جنوب إفريقيا، الدولة التي رزحت طويلًا تحت نير الفصل العنصري، ودفع نيلسون مانديلا، ومن معه من معارضي تلك السياسات القمعية الظالمة، أثمانًا باهظة وسنوات طويلة من أعمارهم قضوها في غياهب السجون عقودًا قبل أن يعود ليقطف ثمرة كفاحه الطويل، ويرى كيف واصل تلامذته وأبناءه هذا الكفاح حتى النصر.
وها هم التلامذة أنفسهم أو أحفادهم يشكلون جبهة دفاع تنتصر لقضايا الإنسانية، وتضع أعداءها من الصهاينة فى قفص الاتهام كمجرمي حرب ارتكبوا فظائع وانتهاكات فاقت ما تغنوا به طويلًا واتخذوه ستارًا لفظائعهم من محارق الألمان لليهود فى الحرب العالمية الثانية.
وعندما أعطيت لهم الفرصة تفوقوا على النازيين فى العنجهية والتجبر والسادية !
إنه مشهد نراه للمرة الأولى في تاريخ إسرائيل. وقد بذلت طوال عمرها المسروق من خزانة الزمن كل الجهد لكيلا يحدث مثل هذا المشهد الذي تُحاكم فيه أمام العالم، وتضطر للدفاع عن جرائمها درءًا لإدانة ثابتة عليها ثبوتًا لا تنكره عين.
فكيف حدث هذا؟ ولماذا سمحت به أمريكا؟
الإعلام الإسرائيلي وقف أمام المحاكمة مذهولًا، خاصةً عندما تابع ما حدث فى الجلسة الأولى للمحاكمة، ورأى الموقف الضعيف والإعداد الهزيل لفريق الدفاع الإسرائيلي فى مواجهة الفريق الجنوب إفريقي الذي بدا وكأنه قد جهز أوراقه ومحاميه وملفاته منذ بدء الطوفان، وكأنه كان يعد على الصهاينة أنفسهم تمهيدًا لتلك اللحظة الفاصلة التي ستظل وسامًا على صدر جنوب إفريقيا أبد الدهر.
أحد ضيوف برنامج توك شو في إحدى القنوات العبرية، وهو سياسي شاب، تحدث عما أسماه الخطأ الإستراتيجي الذي ارتكبته إسرائيل بالموافقة على المثول أمام محكمة العدل الدولية، وأن هذه الخطوة قد تمت بإيعاز من الولايات المتحدة الأمريكية، وقد استطاع وزير الخارجية الأمريكية خلال جولته الشرق أوسطية الأخيرة التي استهلها بزيارة إسرائيل أن يقنعهم باتخاذ تلك الخطوة، ويبدو أنه طمأنهم أنها مجرد مسرحية، وهو التعبير الذي استخدمه السياسي الإسرائيلي ضيف البرنامج العبري، وأنها مجرد شكليات لن تدين إسرائيل ولن تنتهي إلى شيء، غير أنهم فوجئوا بما حدث في المحكمة، واكتشفوا أنها محاكمة حقيقية، وأن قضاة المحكمة متحفزون، وكان منهم مَن وصفته الصحافة الإسرائيلية بالمعادي للسامية لمجرد أن بشرته سوداء! فما حقيقة ما يجري في أروقة محكمة العدل؟ وهل هي حقًا مسرحية كما تراها إسرائيل أو تراها أمريكا؟!
الخديعة المزدوجة
لو أنه فخ وقعت فيه إسرائيل كما يزعم الإعلام العبري، فمن الصائد ومن الفريسة؟!
طبقًا للرؤية الأمريكية أن الحرب الدائرة في غزة لابد لها أن تتوقف، بينما إسرائيل مصرة على الاستمرار الأحمق بلا طائل، وقد تعدى جيش الاحتلال المهلة التي أمهله بلينكن إياها، ولهذا كان لابد من اتخاذ إجراءات أخرى سياسية تمتص الغضب العالمي العارم ضد فظائع الصهاينة.
وكان الحل الذي رأت أمريكا أن يتم السماح لمحاكمة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية لكي يعرض الصهاينة أدلتهم وبراهينهم ومبرراتهم المزعومة لاستمرار تلك الحرب أمام العالم، غير أن الجلسة الأولى للمحاكمة اتخذت مسارًا مختلفًا عما توقعته إسرائيل طبقًا لتطمينات بلينكن! إذ فوجئ فريق الدفاع الإسرائيلي بالقضاة يطرحون أرضًا أغلب تلك المزاعم والمبررات، باعتبارها حقًا من حقوق صاحب الدعوة لا المتهم! وهكذا وجد الفريق الإسرائيلي نفسه فى مأزق، لاسيما وقد برع الفريق الجنوب إفريقي في أدائه الاحترافي بما أظهر الإسرائيليين وكأنهم حفنة من المهرجين والحمقى!
غير أن تلك المحاكمة استطاعت بالفعل تحقيق جزء من الخطة الأمريكية الذكية، إذ إن الإعلام العالمي بات ينصرف كليًا نحو قاعة محكمة العدل يتابع مجريات محاكمة القرن، وكأنه يتابع مباراة كأس العالم! وبالتالي تم تخفيف الضغط الداخلي في أمريكا التي غدت اليوم على صفيح ساخن بسبب استعدادات الانتخابات الأمريكية للرئاسة.
وثمة ألاعيب قائمة ومفاجآت قادمة فى تلك الانتخابات.. منها ما حدث فعلًا فى الأيام السابقة من فتح ملف قضية “جيفري إيبستن” مالك جزيرة المتعة، وما تم تسريبه من صور وأخبار عن شخصيات أمريكية سياسية وفنية متورطة فى فضائح تلك القضية الشهيرة.
وإذا كانت ألاعيب السياسة الأمريكية قد وصلت حدَّ التشهير بسياسيين كبار ورؤساء سابقين والزج بحليفتها التاريخية إسرائيل فى قفص اتهام صوري لشغل الرأي العام العالمي، فنحن أمام خطب جلل لدى صناعة القرار في أمريكا، أو ربما فيروس أصاب عقولهم الإليكترونية فائقة الذكاء! إذ إن ما يحدث حتى الآن لا يبشر بأن القادم فى صالح إسرائيل أو أمريكا، وبخاصة بعد الضربات الأمريكية على اليمن..
غارات منتصف الليل
بعد 48 ساعة من تحذير بريطاني بضربة قادمة سيتم تنفيذها ضد الحوثيين في اليمن، انطلقت الطائرات والغواصات والبوارج انطلاقة مجمعة اشترك فيها كل من أمريكا وبريطانيا واستراليا وهولندا ودول أخرى بدعم لوجستي، وتم ضرب 16 موقعًا من مواقع إطلاق الصواريخ ومواقع الرصد والرادار في 60 غارة حدثت فى جنح الليل. ولا شك أن اليمنيين كانوا قد اتخذوا احتياطاتهم بعد التحذير البريطاني بقدوم الضربة، وهو ما يعني بالضرورة أن خسائر اليمنيين محدودة، وأن أمريكا لم تكن تريد تصعيدًا للحرب، بل أرادت تحذيراليمنيين، ومن ورائهم إيران، فهل وصلت الرسالة لإيران؟ وهل تلتزم بمضمونها؟!
الوقائع تشي بعكس ذلك، إذ إن إيران ذاتها قامت باحتجاز ناقلة بترول تابعة لأمريكا، انطلقت من أحد موانئ العراق، ثم رفضت الإفراج عنها برغم الضغط الغربي، أكثر من هذا أن روسيا دخلت على خط الحرب الشرق أوسطية فأدانت الغارات الأمريكية على اليمن، واعتبرتها خرقًا للقوانين الدولية! فهل يحدث ما تخشاه أمريكا وتتسع دائرة الحرب على غير مرادها؟ وإذا حدث هذا فكيف يكون مصير بايدن وحزبه الديمقراطي في الانتخابات الأمريكية القادمة ؟ لابد أن الرياح لن تأتي بما يشتهون..
ملوك ومعجزات!
كل ما نشهده على الساحة اليوم من نتائج: محاكمة إسرائيل، وتخبط أمريكا، وانهيار معنويات المستوطنين، ومخاوف انهيار الحلم الإسرائيلي برمته.. كلها ليست إلا سقط أشجار من ثمار أكثر حلاوة ما زالت تنضج ببطء وعلى مهل في ثنايا شجرة المقاومة الفلسطينية!
ملوك الميدان في غزة حققوا ما لم يستطع أحد تحقيقه على مدار سبعة عقود، أشباح المقاومة الأبطال اكتفوا بتمزيق أوصال الجيش الإسرائيلي، ولم يعلموا أن غيرهم في أنحاء العالم سوف يكمل الضغط على النازيين الجدد لوضعهم فى قفص اتهام محكم.
تمتد الأيام بطوفان الأقصى، وتتضاعف إنجازات محور المقاومة، وكل يوم يشهد مصيبة جديدة تقع على رأس إسرائيل، حتى يأتي اليوم الذي نشاهد فيه قشة ضعيفة تسقط من مكان ما فتقصم ظهرالبعير!
[email protected]