يكتشف محمود درويش قانون فلسطين فى «مرثية لاعب نرد»، ويدرك إدوارد سعيد معنى افتقاد الهوية فى «خارج المكان»، وينهض مروان كنفانى بأسئلة الذات الجريحة فى «سنوات الأمل»، و«عن الفلسطينيين فقط، جدلية النجاح والفشل».
ثلاث روايات إنسانية، لثلاثة أعمدة فلسطينية، تتمسك بالذات الفلسطينية قبل أن تفر، بفعل أعدائها العابرين بين الكلمات العابرة، أو بفعل أبنائها المنقسمين قبل طرد هؤلاء العابرين!
وعن فعل الأعداء المارين بين الكلمات العابرة، وفعل الأبناء المنقسمين، تبدو الذاكرة الفلسطينية نهرا لا يتوقف عن الجريان.
وهنا أتأمل ذاكرة واحدة متخمة بالتفاصيل قبل أن تنسى.
كان مروان كنفانى، ابن المحامى المثقف محمد فايز كنفانى، لا يدرك ما الذي يحدث للعائلة فى شهر مايو من العام 1948، وقد كانت تحملهم سيارة نقل قديمة إلى المجهول.
من يافا إلى عكا، ومن عكا إلى صور اللبنانية، ومن هناك إلى دمشق السورية، ومن الشام إلى شتى بقاع الأرض، يتذكر الفتى، أنه كان يقطف برتقالة ناضجة من بساتين يافا، وينظر وراءه بريبة، لا تفارقه رائحة الأرض، ولا عطور النباتات البرية.
هل كان على الفلسطينى أن يصرخ في وجه الغرباء الآتين من كل فج عميق لينجو من حظ “لاعب النرد”؟
بعد خمسة عشر عاما من النكبة، سيسأل الشهيد غسان كنفانى شقيق مروان الأكبر فى روايته ”رجال فى الشمس”: لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان.. لماذا؟ كان الخزان مغلقا على ثلاثة فلسطينيين، لم يفكروا في الصراخ خشية افتضاح أمرهم فاحترقوا داخل الخزان.
بعد ثلاثين عاما سيعود مروان كنفانى إلى أرض الأسلاف عام 1994، يتأمل الأرض التي غادرها طفلا لا يعى ما يدور، ويعود إليها واعيا ومنخرطا فى تفاصيلها المتشابكة، ويكتب في مقدمة كتابه «سنوات الأمل»، شهادة مؤلمة، محاولا ترتيب الصور الهاربة، يتساءل مندهشا: «فى أول رحلة لى منذ عام 1948، حين كانت مداركى مازالت قاصرة بعد عن فهم ما يجرى، من قطاع غزة إلي مدينة أريحا برا من الشهر الخامس من عام 1994، لاستقبال قوات السلطة الفلسطينية، فى أول دخول لها من الأردن، لم أستطع إلا أن أتساءل، وأنا أنظر من خلال نافذة السيارة، ساهما فى تلك الأرض الجميلة، التى كانت إسرائيل قد استولت عليها قبل وأثناء وبعد حرب عام 1948، عن كيف أضاع آباؤنا هذه الأرض؟ كان ذلك التساؤل قاسيا لمجرد التفكير فيه، جارحا ومهينا، وحزينا في نفس الوقت، وأنا أكتب اليوم، ولأول مرة فى حياتى، وآخرها على أمل، روايتى فى محاولة الإجابة عن ذلك السؤال، ليس للتجريح ولا الانتقاص، ولا عدم العرفان والامتنان لجهود أفراد شعبنا وتضحياته وآلامه، ولا بادعاء معرفتى بالحقيقة المطلقة».
«خارج المكان»، كان مروان كنفانى يدرس القانون فى القاهرة، يعمل في جامعة الدول العربية، فى دائرة الشئون الفلسطينية، وبعثة الجامعة في الأمم المتحدة، ويجد نفسه إلى جوار الزعيم الفلسطينى التاريخى ياسر عرفات منذ عام 1986 مستشارا ومتحدثا باسمه، في أكثر مراحل القضية الفلسطينية اشتباكا، ومن خلال عضويته فى المجلس التشريعى، يعيش كل المنعطفات الحادة، إلى أن يرحل عرفات فى باريس يوم 11 نوفمبر 2004، ثم يقدم شهادة موثقة عن فلسطين العميقة طوال قرن كامل.
والفلسطينى لا يجد نفسه آمنا إلا في ظلال أشجار الزيتون، وبيادر القمح.
رحلة مروان كنفانى هى نفسها الرحلة التي قطعها محمود درويش وإدوارد سعيد، وإن افترقت السبل بين الثلاثة.
يقول إدوارد سعيد فى سيرته العميقة: غير أن الغالب كان شعورى الدائم بأنى فى غير مكانى.
ويرى مروان كنفانى: “إنه لم يحدث فى تاريخ شعوب العالم أن انتصر شعب مقسم”. ويظل محمود درويش ممسكًا بطيف الحقيقة عندما يكون: ومصادفة صارت الأرض أرضاً مقدسة.
وهذه الأرض لهم، وليست للعابرين..