هذه القصة مرت على أغلبنا ونحن في بداياتنا؛ حين غادرنا طفولتنا للتو، وحين أرسلت لنا الحياة برسائل تهنئة تزف لنا فيها البشرى بأننا قد أصبحنا على أعتاب درجات سلم السعادة التي ستمطرنا عن قريب بمحبتها وستمنحنا شعورًا غامرًا بتذوق الجمال أينما كنا وأينما كان، لحظات طالما عاشت وسكنت بداخلنا، ومع كل تلك الأحاسيس الجميلة بقيت أشياء آمنت بنا وآمنا بها إلى أن التقطت خيوطها الحريرية الرقيقة أسراب من طيور جارحة اعتادت مهاجمة الحمائم في أعشاشها، وسعدت أيما سعادة بتفريقها وتشتيت شملها.
يحدث هذا حين تكون العادات والتقاليد أشد قسوة علينا من قسوة أيامنا، حين تجبرنا على التنصل من حقيقتنا الجديدة فتدفعنا لننكر الاعتراف بمشاعرنا الوليدة وجمال آت في موكبه يطرق أبوابنا ليزين حياتنا، نتبرأ من رهافة إحساسنا ومن رقة قلوبنا في وقت كانت فيه أرواحنا تتفتح كالزهور اليانعة وتنبض بمعاني المحبة لأول مرة في حياتنا، كنا نخاف من كل شيء حولنا، نخاف من حديثنا وصمتنا، نخاف من ضجيجنا وهدوئنا، نخشى من نبضة قلب جريئة تدق بقوة فتخبر أحدهم بما يجول بخاطرنا، أو يدور برؤوسنا.
كنا نخشى من هذه الكلمة التي ستخرج دون قصد من أفواهنا لتنبئ عن حالنا ثم تكشف بكل براءة جميع أسرارنا وتنسج أمامهم جميع أحلامنا، فنسارع بسجن أنفسنا بأنفسنا ونقيم بداخلنا مسرحًا لحكايات من أحلام يقظة نعهد إليها بحديثنا، ندعوها ألا تتخلى عنا فهى المتنفس الوحيد والمتاح لنا، ثم نضطر للتخلي عنها شيئًا فشيئًا لأجل من اعتقلونا في زنزانة ظلمهم وقسوة قلوبهم، نفعل هذا ونحن على وشك الاستمتاع بسعادة غامرة كادت أن تغمرنا ونحن نلون أحلامنا، نلونها بألوان صاخبة أملًا في إفصاحها بسر جمالها وجمالنا.
الحب طاقة هائلة لكنها برغم ذلك استسلمت مبكرًا ولم تعد قادرة على الصمود أمام وابل الرفض المتعمد من هؤلاء الذين يجهلون ما يشكل وجداننا ويخلق منا أنفسًا عالية وصافية، تبًا لمن كسروا أمانينا على صخرة أنانيتهم، تبًا لمن حولوا أغلبنا إلى عتاة فنحن لانذكر لهم سوى سيء مافعلوه بنا.
خلف أسوارهم العالية كانت إقامتنا الجبرية، عشنا تفاصيل قسوتهم وتعنتهم عمرًا، خضعنا فيه لجبروتهم بعد أن قاموا بوضع خططهم لكسر المعنى الحقيقي للإنسانية بداخلنا، نشكو في كل لحظة من قسوة قبضتهم؛ ليتهم يعلمون بأنهم قد أخطأوا حين جعلونا نتنكر لمشاعرنا البريئة ولمحبتنا الصافية؛ فمن لم يشعر بالحب لن تسكنه الإنسانية ولن تعثر له على عنوان، فالحب والإنسانية مترادفان، رفيقان لايفترقان، والآن اتركوا هؤلاء في أغلالهم، دعوهم وحدهم عسى أن يلوموا أنفسهم فيندمون أشد الندم على مافعلوه بنا، يتساءلون عن سر غيابنا، حتى يعلموا أن كل هذا جاء نتاجًا لصلفهم وسيء أفعالهم.
يبدو أن الأمر صعب للغاية؛ فمن ذاق قسوة الظلم لا يلجأ للمعاملة بالمثل، ولا ينطبق عليه المثل القائل: "فاقد الشيء لا يعطيه" بل إنه يعطيه أضعافًا مضاعفة؛ فهو من آمن بأن المحبة شريطة لوجود الإنسانية، لقد تعلم ذلك واعتقد بصحته، تعلم أن العطاء منحة فقام بإهدائها إلى الجميع دون تفرقة، ودون ذهاب لطريق يحقق فيه لذاته انتقامًا أو يقوم بتصفية حسابات سابقة، تعلم الحب وآثر العطاء من دون سؤال، إنه لم يخطط يومًا للثأر لنفسه، ببساطة لأنه إنسان.