Close ad

"الإبادة الجماعية" عقيدة الصهيونية

3-1-2024 | 16:36

لم يكن العدوان على غزة سوى رقم في سلسلة اعتداءات إسرائيلية متتالية ومتتابعة، ولن يكون الأخير؛ وسواء كان العدوان له سبب، أو لم يكن له فلن تعدم إسرائيل الحجة. فالعدوان وما يستتبعه من تهجير وإبادة واحتلال الأراضي هي من أعمدة الدين الصهيوني، ولا أقول الدين اليهودي.

فالصهيونية تعتبر "أسطورة الوعد" تخص اليهود وحدهم، مع أن هذه الأسطورة تأويل للوعد الإلهي الإبراهيمي كما في سفر التكوين على اعتبار أن هذا حق لهم وحدهم. فسيدنا إبراهيم العراقي المولد والنشأة، أبوإسماعيل وإسحق، وهذا لا تختلف عليه الديانات السماوية الثلاث، فلماذا يكون الوعد لعرق أو دين دون غيره؟ ومن هذه الخرافة صكوا خرافة النقاء العرقي وشعب الله المختار، وطبقًا للتوراة اختلط اليهود بالأجناس الأخرى، وفي المقدمة الكنعانيين، لكنهم لا يؤمنون بذلك، حتى أن أحد الحاخامات، ويدعى كوهين، قسم شعوب العالم إلى قسمين، وجعل إسرائيل في قسم، وكل الشعوب الأخرى في القسم الثاني.

إذن نحن أمام عقيدة قوامها العنصرية والقتل والتهجير، وتلك العقيدة متغلغلة في المؤسسات الإسرائيلية وفي مقدمتها مؤسسة الجيش، وما يؤكد ذلك ما قاله الرائد يائير بن ديفيد في غزة تسويقه العدوان على أنه أمر إلهي. إذ وقف هذا الضابط، قبل أيام قليلة من نهاية عام 2023، على تلة من ركام الأبنية المهدمة يخطب في جنوده محمسًا لهم، إذ قال هذا الضابط، وقد بثت قنوات كثيرة كلمته مترجمة،: "صرخ شمعون ولاوي قائلين: أيجعل أختنا مثل الساقطة؟ هل يذلون شعبنا ونصمت؟.. لن نصمت. لقد فهم شمعون ولاوي الشرق الأوسط.. في الشرق الأوسط شرف شعبكم فوق كل شيء. 

وعلى الفور وبعد كل هذا نجد الآية الآتية "ورحلوا وحل خوف الله على المدن التي حولهم" ما الذي أخاف الشعوب المجاورة، فلم يجرؤوا على الاقتراب من شعب إسرائيل بعد ذلك؟ الجواب هو ما فعله شمعون ولاوي. تلقى شعب إسرائيل يوم عيد فرحة التوراة ضربة موجعة وجرحوا كرامة شعبنا... الكتيبة 9208 دخلت بيت حانون وفعلت بها ما فعل شمعون ولاوي في نابلس، لكن المهمة لم تنته.. لا تزال أمامنا غزة بأكملها لنفعل بها ما فعلنا في بيت حانون. غزة تبدو مثل بيت حانون، هل تعلمون لماذا؟ حتى تخاف جميع الأمم المحيطة بنا.. في مدن لبنان وفي الضفة الغربية، وجميع الأعداء المقيمين حولنا..."، هذا الكلام وثيقة دامغة على جرائم جيش الاحتلال وقيامه بالإبادة الجماعية والتطهير العرقي.

وإذا كان هذا الضابط تحدث بلهجة وعظية، فقد جاء بعده بيوم واحد نيتانياهو ليغير اسم العدوان من "حرب السيوف الحديدية" إلى "حرب سفر التكوين"، الاسمان لهما دلالة مهمة في ذات القصة التي رواها الرائد وهي، قصة محورية عند الصهيونية. ومن المهم معرفة هذه القصة الواردة في سفر التكوين ومعرفة أبعادها وسر تمسك الصهيونية بها:
القصة تروي أن يعقوب بعد أن عاد من العراق مع زوجاته الأربع وأبنائه الاثني عشر وابنته "دينة" استقر مقامه في منطقة تسمى "شكيم" وهي قرب نابلس بعد أن اشترى قطعة أرض من حمور أمير البلدة مقابل مائة من الفضة. 

وفي أحد الأيام خرجت ابنته مع خادمتها لرؤية النساء عند البئر، لكن الخادمة عادت بمفردها لتخبر "يعقوب" أن "شكيم" ابن حمور دنس ابنته وأخذها إلى بيته.

كيف دنسها؟ تقول التوراة في سفر التكوين: "وتعلقت نفسه بدينة بنت يعقوب وأحب الفتاة ولاطفها"، وكان وصف الخادمة أن قدم "دينة" اختلت فسقطت وسقط "شكيم" فوقها، وهكذا كانت العادة عند البابليين عند الرغبة في الزواج.

ثم ذهب حمور وابنه إلى يعقوب لطلب زواج ابن الأمير من دينة. وقال حمور نصًا: "وصاهرونا اعطونا بناتكم وخذوا بناتنا. وأقيموا معنا وهذه الأرض بين أيديكم أقيموا فيها واتجروا وتملكوا" سفر التكوين. هذا عرض سلام، وتعايش واندماج واضح.

وفي أثناء الحديث الدائر حضر أبناء يعقوب، وكان شمعون ولاوي في حالة غضب شديد: "أكازانية يتخذ أختنا. سفر التكوين"، لكن شكيم ابن الأمير تودد لهم أكثر: "وقال شكيم لأبيها وأخوها هابوني حظوة في عيونكم وما تقترحون عليّ أوده لكم. أكثروا علىِّ المهر والعطايا جدًا فأعطيكم كم ترسمون لي وأعطوني الفتاة زوجة. سفر التكوين". فماذا كانت الإجابة كما في التوراة: "فأجاب بنو يعقوب شكيم وحمور بكيد ومكروا بهما لأنه دنس أختهم وقالوا لهما: لا نستطيع أن نعطي أختنا لرجل أقلف لأنه عار علينا. سفر التكوين". "لكننا بهذا نوافقكم تصيرون مثلنا بأن يختن كل ذكر منكم. نعطيكم بناتنا ونتخذ بناتكم ونقيم عندكم ونصير شعبًا واحدًا. وإن لم تقبلوا منا أن تختتنوا نأخذ أختنا ونمضي. فحسن كلامهم عند حمور وشكيم ابنه. سفر التكوين".

واضح طبعًا أن هناك مكيدة دبرت لحمور وابنه وشعبه، إذ قام الجميع بإجراء عملية ختان لكل ذكور المدينة: "وكان في اليوم الثالث وهم يتألمون أن ابني يعقوب شمعون ولاوي أخوي دينة أخذا كل واحد سيفه ودخلا المدينة آمنين فقتلا كل ذلك. سفر التكوين".

"وحمور وشكيم ابنه قتلاهما بحد السيف وأخذا دينة من بيت شكيم وخرجا. سفر التكوين".
"ثم دخل بنو يعقوب على القتلى وغنموا ما في المدينة من أجل تدنيس أختهم وأخذوا غنمهم وبقرهم وحميرهم وكل ما في المدينة وما في الصحراء وسبوا وغنموا جميع ثرواتهم وكل أطفالهم ونسائهم وسائر ما في البيوت. سفر التكوين".

وقبل أن نناقش القصة علينا أن نعرف موقف "يعقوب" طبقًا لسفر التكوين: "فقال يعقوب لشمعون ولاوي قد اشقيتماني واخبئتما ريحي عند أهل الأرض والكنعانيين والفيرزيين وأنا في نفر معدود فيجتمعون عليّ ويقتلونني فأهلك أنا وبيتي".

وإذا كان الضابط الإسرائيلي وقف وسط خراب غزة فرحًا ومباهيًا بما فعلوه من إبادة جماعية على غرار ما فعل شمعون ولاوي، فعليه أن يدلنا على أسباب أخرى لغضب "يعقوب" من شمعون ولاوي، بل ولعنهما وحرم ميراثه عليهما، وعليه أيضًا أن يفسر قيام الأمير وابنه بمبادرة سلام وتعايش لمن هم غرباء ومشاركتهم ومصاهرتهم، بل والاستسلام الجماعي لخديعة الختان رغبة في الانصهار والتعايش.

ألا يوجد في التوراة وتحديدًا في سفر التثنية ما يقضي بأن أي رجل يطأ فتاة بكرًا يجب أن يدفع لوالدها خمسين من الفضة ويتزوجها على ألا يسمح له بتطليقها. يوجد طبعًا، لكن التفسير الصهيوني للتوراة كان وما يزال خاضعًا لمخططاتهم.

وقد استخدم الصهاينة هذه القصة مع ما سمي بـ"المحرقة النازية" كدلالة على أن تعايش "يعقوب" لم ينفعهم، وأن ما يجب أن يسود هو منهج "شمعون ولاوي" في الإبادة، ومن ثم يدب الرعب في الأمم الأخرى فلا تهاجم الإسرائيليين أبدًا. ووفقًا لهذا المفهوم المعوج جرت عمليات الإبادة والتهجير القسري للسكان الأصليين منذ إعلان تأسيس دولة الصهاينة. ولم يحدث قط أن جنحوا للسلم، لكنهم يقبلون به مرغمين في بعض الوقت على أن ينقضوا على ما تعهدوا به في وقت آخر، وحتى أن من قبل بالسلام مثل إسحاق رابين والذي كان مقاتلاً في "الهاجاناه" الجناح المسلح للصهيونية، تم قتله فقط؛ لأنه قبل توقيع اتفاقية سلام، لذلك فإن إسرائيل عبارة عن معسكر كبير أو كما يقول جمال حمدان: "فوجودها غير الشرعي رهن من البداية إلى النهاية بالقوة العسكرية وبكونها ترسانة وقاعدة وثكنة مسلحة، فما قامت ولن تبقى ـ وهذا تدركه جيدًا ـ إلاّ بالدم والحديد والنار. ولهذا فهي دولة عسكرية في صميم تنظيمها وحياتها، و"أمن إسرائيل" هو مشكلتها المحورية، أما حلها فقد تحدد في أن أصبح جيشها هو سكانها، وسكانها هم جيشها، وهو ما يعبر عنه "بعسكرة" إسرائيل.. إستراتيجية الاستعمار والتحرر"، وهذا أمر فريد من نوعه في العالم كله، وعبر عنه مناحم بيجن حين قال: "إن هناك نمطًا جديدًا من الكائن البشري لم يعرف في العالم أبدًا، وهو اليهودي المقاتل"، وربما كانت هذه التسمية هي التي جعلت بيجن يعلن إيمانه بضرورة وجود "إسرائيل الكبرى". والأمر ذاته جعل بن جوريون يحدد في عام 1963 أهداف مملكة إسرائيل الثالثة كما أسماها، إذ قال في مقدمة كتاب "تاريخ الهاجاناه": "ليس في بلادنا مكان إلاّ لليهود. إننا سنقول للعرب ابتعدوا، فإذا لم يبتعدوا وقاوموا فسنبعدهم بالقوة".

ومن المعروف تاريخيًا أن الصهيونية عملت منذ تأسيسها على تغذية روح عدم اندماج اليهود في المجتمعات التي يعيشون فيها، بل إن "تيدور هانزل" وصف معاداة السامية بأنها مفيدة جدًا لتطور الشخصية اليهودية، ما يخول لهم أن تكون القوة هي الحاسمة لأي صراع. ولذلك وجدوا في أفعال هتلر شيئًا مهمًا كونه يدفع باليهود في اتجاه واحد وهو أرض فلسطين. وكان تبرير احتلال الأرض جاهزًا معتبرين أنهم وجدوا في التوراة تبريرًا إلهيًا لكل ذلك.

الصهيونية خطر على البشرية، وليس على المنطقة وحسب، ولذلك صنفتها الأمم المتحدة كمنظمة عنصرية في القرار رقم (3379) الصادر في 10 نوفمبر 1975. وكان هذا القرار ومازال من دون صدى في العالم، كما دماء البشر في غزة لا توقظ العالم القابع على تلال من المآسي.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
هل أخطأ شيخ المؤرخين؟

توقفت طويلاً أمام ما قاله المؤرخ الكبير الدكتور عاصم الدسوقي من أن نشأة إسرائيل جاءت نتيجة اندماج أو تحالف المهاجرين البروتستانت الإنجيليين ، أتباع مارتن

الإغلاق التام والموت الزؤام

يقولون إن الإغلاق التام هو الحل أمام اجتياح فيروس كورونا للعالم، ومع ذلك جاءت معلومات صادمة من جامعة هارفارد، حيث خلصت دراسة علمية لأربعة باحثين إلى أن "إغلاق المجتمع أسوأ ما يمكن فعله".

الشبكة التي تحكم العالم..

ليس أخطر على الإنسان من جهازه العصبي، ولا يمكن أن ينتصر المرء في معاركه الحياتية إلاّ إذا انتصر على جهازه العصبي أولًا، وها هو الخوف يحكم الكون كله، العالم

اتحاد أوروبا يمرض أم يموت؟

اتحاد أوروبا يمرض أم يموت؟

انتهاء عصر "العولمة"

دشن الرئيس الأمريكي - من حيث يدري أو لا يدري - لعصر جديد بتسمية الوباء العالمي باسم "وباء الصين"، تسمية مرت وكأنها مجرد مكايدة سياسية، لكنها تسمية كاشفة

وقت الشائعات.. (٣ - ٣)

وقت الشائعات.. (٣ - ٣)

وقت الشائعات (١ – ٣)

حين تشتد الأزمات في مجتمع ما يبحث الناس عن المعلومات، مثلما يبحثون عن السلع، وفي سبيل سعيهم للوصول إلى الحقيقة قد يقعون ضحايا للمعلومات المغلوطة والمضللة، والسلع الفاسدة والمضرة.

الأكثر قراءة