تتنازع المرء خلال مسيرته في دروب الحياة؛ العديد من الأفكار والتساؤلات ـ وبخاصة في مفاصل الأيام والشهور والسنوات ـ عن ماذا يحمل "الغد" في طياته من أحداث؛ وماذا سيكون مدى تأثيرها على الروح والقلب والوجدان.. والبدن! ويقع في حيرة بين أفكاره الراسخة "العقائدية والدينية"؛ وبين "مجريات الحياة" من حوله داخل المجتمع الذي يعيش فيه؛ والتي قد تتعارض ـ في الكثير من الأحوال ـ مع مكنون ضميره ومفاهيمه عما يجب أن يكون عليه! فتارة تأخذه رياح اللامبالاة بما فات أو بما سيأتي.
ولكن.. ونحن نستعد لاستقبال العام الجديد وإضافة رقم جديد في لوحة "عدَّاد الأيام" الوهمي؛ نجد أن ظروف الحياة من حولنا قد تغيرت؛ وأن الإيقاع أصبح سريعًا بفعل ما يخرج به علينا ــ في كل لحظة ــ "كتيبة العلماء" من اختراعات ومستجدات؛ تلك المستجدات التي تطيح بالجهد البدني البشري ــ وتطيح بجيوش العِمالة في دول العالم الثالث إلى ميادين البطالة ــ وتضع "الآلة" و"نقرات الأصابع على مفاتيح التكنولوجيا" محل "الإنسان/الإنسان"؛ فيقع فريسة التفكير في الغد وما بعد الغد.. ويجلس صاغرًا في انتظار "كف القدر"!
وكانت دعوتي: تعالوا.. لنحلم بعالمٍ جديد! وتلاشيت أن أترك قلمي ليقول: تعالوا.. لنحلم بعالمٍ سعيد! فالبون شاسع بين هذه.. وتلك! فالسعادة مسألة نسبية في مفاهيم بني البشر؛ بل تختلف هذه المفاهيم بين مجتمع وآخر؛ والسعي خلف تفسيرها؛ سيعرُج بنا إلى متاهات وغياهب سحيقة لا يعلم مداها إلا الله عز وجل.
ولكننا ــ بحكم العادة والرغبة في التسلِّي أو التسلية ــ في مطلع كل عام جديد؛ نطرح على بعضنا البعض هذا السؤال الأبدي: ما هي أمنية العام الجديد؟ وبالتأكيد؛ بل الغريب.. أننا سنجد المئات من الإجابات المختلفة ــ بحسب الوجود في المكان والزمان ــ وسنجد أن إجابة أحدهم من داخل أحد أماكن التسوُّق أن امنيته أن يحصل على أكبر قدر ممكن من المستلزمات بأقل الأسعار؛ ويجيب آخر من داخل أحد المراكز الصحية؛ أن أمنيته أن يهِب الله الصحة والعافية لقريب أو حبيب مستلقيًا على السرير الأبيض داخل هذا المشفى؛ وستجد إجابة أحدهم من داخل سوق السيارات بأنه يريد الحصول على غايته في سيارة بأحدث موديل؛ يباهي بها قومه وأبناء جلدته.. وهكذا!
ولكننا في العموم عندما يحل أو يهل علينا عام جديد، فإننا نتضرع إلى الله أن يحقق كل الأمنيات على المستوى الشخصي ومؤشر الحالة المزاجية وزمن الإجابة على السؤال.
نعم.. كل هذا جميل؛ ولكن ماذا عن الأمنيات المرجوَّة لحال وأحوال الوطن والأوطان المجاورة؛ والتي تؤثر بدورها على أحوال المجتمعات على طول وعرض الخريطة العربية بأكملها؟ وبخاصة أن أصوات طلقات المدافع تصل إلى آذاننا في ساعات الليل والنهار؛ وخيوط الدم المُراق تطفو على أمواج البحار والأنهار؟ ونراها واضحة جليَّة على شاشات التلفاز ومواقع الأخبار المحلية والعالمية؛ ونحن جلوس على مائدة الطعام!
حتمًا.. ستكون الأمنيات يغلفها الطموح إلى أن تصمت أصوات المدافع وطلقات الرصاص؛ ويكون الحلم "الفانتازي" المستحيل بأن نرى يومًا ما "عش الحمام" داخل "مواسير المدافع" ليرفرف على الدنيا السلام!
ترى.. هل خرجت بمضمون حديثي عن الحلم بعالمٍ جديد تظلله أغصان أشجار الرحمة والتآلف؛ وأن تكون قلوبنا لا تحمل الغل أو الحَسَد؛ وأن يهبنا الله من لدنه كل بذور الخير والنماء التي نستزرعها في قلوب الصغار والكبار؛ وأن يكون بزوغ فجر العام الجديد مبشرًا بانتهاء الأوجاع والآلام في النفوس البشرية المتطاحنة في "ماراثون الحياة" والأيام العنيفة المتعاقبة؛ وندعو بأن تتحقق كل الأمنيات الطيبة الخالية من الأطماع والأحقاد لكل بني البشر. وساعتها سنسعد بعالمٍ جديد لاتشوبه شائبة؛ ولا ينغص أحلامنا البيضاء عدو أو رقيب؛ ونكون قد حققنا ـ بالفعل ـ الحلم بعالمٍ يسير قُدمًا إلى طريق السعادة!
والآن.. تعالوا بنا لنهبط إلى أرض الواقع المصري المُعاش الذي يحيط بنا؛ وتحت ظلال أفنان الحُب في "جمهوريتنا الجديدة" بقيادتها الوطنية المخلصة؛ التي لاتألو جهدًا من أجل تحقيق كل الأمنيات العظيمة في بناء الوطن؛ ولتحقيق الحياة الكريمة للمواطن المصري؛ ولتكون الأمنيات على قدر ما يتم على أرض الواقع؛ في أن تواصل مصرنا المحروسة مسيرة مشروعاتها القومية العملاقة؛ التي غيَّرت من شكل خريطة مصر شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا؛ واستطاعت تعزيز قدراتها ومكانتها العالمية؛ وعلى الصعيد الداخلي في تطوير القرى والنجوع؛ والقضاء على بؤر العشوائيات، أليست تلك المشروعات العملاقة كفيلة بأن تسير بنا إلى تحقيق العالم الجديد.
وتعالوا بنا لنحلم بعالمٍ جديد.. وسعيد، يجد الإنسان فيه ما يُشفي غليله فيما انطوت عليه مقولة عمر الخيام في رباعياته؛ ولإيمانه العميق بأن "كأس العُمر" سيمتلئ حتمًا بـ "كَفْ القَدَرْ"!؛ فيردد ما جادت به قريحة الخيام:
لا تُشغل البال بماضي الزمان.. ولا بآتِ العيشِ قبلَ الأوان
واغنم من الحاضرِ لَذَّاتهِ.. فليسَ في طَبعِ الليالي الأمان
غَدٌ بظهرِ الغيب، واليومُ لي.. وكم يَخيبُ الظن في المُقبِلِ!
كل عام وشعب مصر الطيب في أمانٍ وسلام..
أستاذ العلوم اللغوية والتأليف والكتابة الإبداعية بأكاديمية الفنون ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي الأسبق وعضو اتحاد كتاب مصر