إنه الحظ أو القدر، أن تقرأ كتابًا في قلب أحداث عاصفة، ينتمي إليها، وتنتمي إليه، كتلك التي تجري قريبًا من الشرايين المصرية في غزة الجريحة.
كتاب يعود إلى الماضي، فتجده في قلب الحاضر.
الكتاب هو «اعترافات جولدا»، رئيسة وزراء إسرائيل المهزومة في حرب أكتوبر 1973، والعضو المؤسس لإسرائيل بن جوريون عام 1948، واقتلاع فلسطين بقرار دولي بائس.
الكتاب - الصادر عن بيت الحكمة بترجمة وتقديم، عزيز عزمى، وقدم الطبعة، د. محمد ماهر بسيونى - أشبه بوثيقة إدانة لمؤلفته، التي لعبت دورًا خطيرًا في مصير الشرق الأوسط، تلك المولودة في أوكرانيا الروسية، وقد جاءت مهاجرة إلى فلسطين العربية، فقيرة معدمة، هاربة من اضطهاد دائم، يقع على قومها ”اليهود”، في كل مكان عاشوا أو استوطنوا فيه، عدا أماكن العرب التي وجدوا فيها احتراما يليق بالبشر، ولم يكن فيها ما يسمى “المسألة اليهودية”.
تعترف بأنها لم تعاشر إلا اليهود، سواء في أوكرانيا، أم الولايات المتحدة الأمريكية، أم فلسطين العربية.
وتعترف هي وقادتها المؤسسون بمبدأ العزلة، أو ما عرف في أوروبا بالمسألة اليهودية، تلك المسألة التي تغرق معها مجموعة من البشر في مستنقع من الأفكار المبهمة مثل شعب الله المختار، وعن هذا تقول “إنها تؤمن بأن اليهود هم الذين اختاروا الله”.
من خلال اعترافاته تنتمي جولدا إلى حزب العمل ”الماباى”، اليسارى الاشتراكي، ومن خلاله كانت عضوًا في الاشتراكية الدولية، وبالطبع لا تخفي كراهيتها للعصابات الدينية المتطرفة ”شتيرن، والأرجون، وبيتار وبلماخ وقد وصفوها مرة بالوثنية الملحدة، وهى كراهية في الشكل وليس في الجوهر، فجميعهم غارقون في كراهية العرب والفلسطينيين دون معنى! ولكنها تحب عصابة الهاجاناه، تلك التي كونت عصب الجيش الإسرائيلي الحالي.
دون إغراق في التفاصيل، تعترف جولدا بمرارة الهزيمة في حرب السادس من أكتوبر 1973، ولولا الجسر العسكري الأمريكي، لأصبح وجود الكيان الإسرائيلي على المحك، تلك الحرب التي محت زهوة نكسة 67 التي كثيرًا ما كانت تشعرها بأنها المرأة التي هزمت العرب، هؤلاء الذين عاشت بينهم في فلسطين، ولم ترهم إلا لمامًا في مذكراتها الفادحة.
تقول جولدا: ليس أشق على نفسي من الكتابة عن حرب أكتوبر 1973.. سأكتب عنها ككارثة ساحقة، وكابوس عشته بنفسي، وسيظل باقيًا معي على الدوام”، وعن الجسر الأمريكي، بعد أن طلبت النجدة من وزير خارجية أمريكا هنري كيسنجر، تقول: إن هذا الجسر الجوي لا يمكن تقدير قيمته، إنه لم يرفع روحنا المعنوية فقط، لكنه أسهم في توضيح الموقف الأمريكي أمام الاتحاد السوفيتي، ولقد بكيت للمرة الأولى، عندما علمت أن الطائرات الأمريكية وصلت مطار اللد”.
إنه الحظ أو القدر أن تولد جولدا مائير عام 1898، في أوكرانيا الروسية، بالقرب من ولادة الحركة الصهيونية التي نشطت على يد الصحفي النمساوي اليهودي ثيودور هيرتزل، صاحب مصطلح الدولة اليهودية في فلسطين، تلك الحركة التي أغرقت أوروبا في مسألتها الغامضة، ولم تجد إلا فلسطين العربية، الواقعة تحت الاحتلال العثماني، ثم الانتداب الاستعماري البريطاني، لتحط فيها كمسألة معقدة، وهي مسألة حاربتها أوروبا لألف عام كاملة، ولم تنجح في وأدها، فقذفتها إلى صحراء العرب.
ما يجري في غزة الآن من مذابح، هو فصل مكتوب بالدم في كتاب جولدا، فطوال الصفحات الـ 300، لا ترى الفلسطيني ولو عرضًا، ولا ترى البشر في العالم إلا لمامًا، مرة واحدة استضافهم شيخ عربي وأكرم وفادتهم، ظلت تصف اللحوم والطعام والخبز ”البتاو” في كلمات نهمة، ولديها كل الحق، فقدعاشت الجوع إلى الطعام سنوات طويلة، وقد وصفت ذلك بين سطور الكتاب كنوع من استدرار التعاطف الذي يجيده كل قادة الحركة الصهيونية على مستوى العالم.
بريطانيا أعطتهم وعد بلفور، لكن جولدا تكيل الاتهامات للإنجليز بسبب الكتاب الأبيض، ومنع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، أما ألمانيا التي اضطرت أن تذهب إليها في مهمة رسمية، فتشعر تجاهها بالتقزز والقرف، وهكذا الروس، وشعوب أوروبا الشرقية، وبولندا، والمجر وإسبانيا، وحدها أمريكا التي عاشت فيها مع اليهود، ومع هذا لم تحتك بأمريكيين آخرين، تراها هي صاحبة الفضل، وقد اعترفت أن واشنطن أعطتها صحراء النقب العربية، فضمتها إلى الدولة التي قررتها الأمم المتحدة في القرار 181 لعام 1947 ذلك القرار الذي تراه معيبًا، برغم موافقتها عليه مؤقتًا، فهل يقول نتنياهو شيئًا مختلفًا عما كتبته جولدا وهو يقوم بإبادة الفلسطينيين في غزة؟
هذه إطلالة سريعة عن جولدا مائير «الرجل الوحيد في وزارة بن جوريون» وسوف أعود إليها في وقت آخر.