منذ أن بدأ الحديث عن توسع استخدامات الذكاء الصناعي في حياة البشر، تزايدت معه أحاديث المخاوف وحكايات الرعب من هذا الغول التكنولوجي، الذي سيقلب موازين الحياة ومعادلات الأشياء، وتوازنات الأعمال، وراح البعض يسوق أن هذا الوافد سيضرب سوق العمل، ويعصف بوظائف الملايين ويهدد مستقبل أسرهم.. لكن بالبحث والتحليل ستكتشف أن بعض ما يُروج عن الذكاء الاصطناعي ينقصه التدقيق، ويفتقد للمصداقية؛ بل ويخلو من المنطق.
وهنا أتوقف عند قضية سوق العمل والآثار المترتبة على دخول الذكاء الاصطناعي ومزاحمته للبشر في إنجاز الأعمال.. وهل بالفعل سيفقد الملايين وظائفهم بسبب الذكاء الاصطناعي؟ فقد كان هذا السؤال محور نقاش مستفيض ومتعمق في المؤتمر الدولي لسوق العمل الذي حضرته بمدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية منتصف الشهر الحالي، ونظمته وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بالمملكة العربية السعودية، بمشاركة عدد كبير من خبراء العالم، ولعل أهم ما حمله هذا المؤتمر أنه وضع لأول مرة خارطة طريق أمام العالم في التعاطي مع قضية العمل في ظل ما تواجهه من تحديات، في مقدمتها استخدامات الذكاء الاصطناعي، وكشف حقيقة ما يُثار من جدل، وما يُطرح من مخاوف عبر نخبة من العلماء والخبراء المهتمين والمختصين في قضايا الصناعة والإنتاج والأعمال.
الوزير أحمد بن سليمان الجارحي كان أول من بشر بفضل الذكاء الاصطناعي في المؤتمر، وعدد من هذه الأفضال التي تنتظر دواوين العمل والإنتاج، وقال إن الدراسات تشير إلى أن هناك 150 مليون وظيفة جديدة سيضيفها الذكاء الاصطناعي، لكن في المقابل فإن الذكاء الاصطناعي يفرض على سوق العمل رفع كفاءة العاملين، وصقل مواهبهم ومهاراتهم.
ولعل هذا التوجه المتفائل هو الذي ساد المناقشات التي تناولت تلك القضية الملحة؛ لتؤكد حقيقة أن الذكاء الاصطناعي ليس تهديدًا، بل محفز للعمل والإبداع، وأن الإنسان خلق ليحيا ويعيش ويبتكر ويبدع، وإذا كان الذكاء الاصطناعي أحد إبداعات الإنسان، فمن المؤكد أن الإنسان لن يبتكر شيئًا يضره بل ينفعه، ففي عصر الذكاء الاصطناعي ستولد فرص عمل جديدة ومهن أخرى لم تكن على خريطة العمل مثل: مهندس ذكاء اصطناعي، وفنان ذكاء اصطناعي، ومهندس مدخلات، ومهندس محتوى، ومدرب ذكاء اصطناعي.. وغيرها من وظائف ومهن باتت مطلوبة بفضل الذكاء الاصطناعي، وتكفي الإشارة إلى إحدى الدراسات الخاصة بسوق العمل أكدت أن ٧٧ بالمائة من الشركات تواجه صعوبات في الحصول على الكفاءات التي تحتاجها للعمل.
في المقابل هناك طفرات متسارعة في مجالات العمل ببعض القطاعات والتى تُنهي عصر البشر؛ منها المطارات الرقمية التي لا تحتاج معها إلى أي تدخل بشري، بداية من الحجز وإنهاء إجراءات السفر، حتى استلام الحقائب يكون بالمنزل ليس بالمطار، وهناك أيضًا البورصات الرقمية، والبنوك الرقمية، وفي الطب الجراحات بالذكاء الاصطناعي، كلها مجالات لا تحتاج إلى العنصر البشري.
المؤكد أن سوق العمل يشهد متغيرات وتحديات بفعل التطور التكنولوجي تنسف القواعد والنظريات التقليدية في العمل؛ إذ بدا هناك توجهات لدى مؤسسات عالمية كبرى في فتح سن التقاعد، وعدم التقيد بسن محددة ما دام العامل لديه القدرة على العطاء والإبداع، كما هناك توجهات للتوسع في العمل من المنزل، والعمل يومين فقط بالأسبوع، وتطوير نظم الحوافز والرواتب بمفهومها التقليدي لتكون مرتبطة بالإبداع والتطوير والجودة.
أحد الخبراء الدوليين الذين شاركوا في المؤتمر وهو "انتي شي" صيني الجنسية، والذي كان قد تنبأ بالأزمة الاقتصادية العالمية عام ٢٠٠٨، قال إن الذكاء الاصطناعي في نظري وسيلة للتحسين والتطوير، ويجب ألا نخاف منه؛ بل علينا أن نستعين به للمساهمة في رفع الكفاءة والإنتاج، ولذلك أنصح بالاستثمار فيه.
تلك هي خلاصة القول في مسألة الذكاء الاصطناعي، أنه وسيلة مهمة لتحسين الحياة، وعلينا استغلاله والاستثمار فيه؛ حتى نستطيع تحقيق هذا الهدف، أما أحاديث التخويف فهي مجرد هواجس لا أساس لها.