في قصر يلدز في اسطنبول توجد مجموعة هائلة من صور مصر في القرن التاسع عشر، من زمن السلطان عبدالحميد الثاني، وهي بحاجة إلى الدراسة والبحث والمراجعة التاريخية والوثائقية.
وتتشكل مجموعة مصر من 800 صورة فوتوغرافية محفوظة في عشرين ألبومًا، معظم تلك الصور تم التقاطها في الفترة من (1880 إلى 1890) ضمن أرشيف صور ضخم يضم 37 ألفًا و178 صورة، محفوظة في 922 ألبومًا.
وهي على حد تعبير الدكتورة عائشة ملك اوزيتجين مدير مركز السلطان عبدالحميد الثاني للبحث والتطبيق بجامعة يلديز تكنيك، فإنها مجموعة غنية تعد إرثًا ثقافيًا عالميًا، وتشكل حافظة بصرية نادرة، وقد أدرجتها منظمة اليونسكو في 2023 في سجل "ذاكرة العالم"، كتراث ثقافي عالمي.
ربما من الجانب التركي فمجموعة الصور والتي تكونت في فترة الإمبراطورية العثمانية وبمجهودات خاصة للسلطان عبدالحميد الثاني، بمثابة مرآة تعكس تاريخ وجغرافية الدولة العثمانية إلى جانب الكثير من الدول في القرن التاسع عشر.
لكنها من جهة التلقي المصري لهذه التحفة النادرة فإنها تعكس بعضا من الإرث الفني والثقافي والاجتماعي والطبيعي لمصر منذ عهودها التاريخية القديمة وحتى نهاية القرن التاسع عشر.
تم عرض نماذج من ألبومات مصر قبل أيام وصاحبته ندوة في قاعة إيوارت بالجامعة الأمريكية بالقاهرة تحدثت فيها الدكتورة أوزيتجين عن أصول تكوين المجموعة، حيث جذبت إسطنبول خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، العديد من المصورين الرحالة الأجانب، مارسوا نشاطهم وعرضوا أعمالهم، التي صوروها في إسطنبول أو في دول أخرى مثل مصر.
وأرجعت الدكتورة اوزيتجين وجود هذا الكنز من الصور إلى شغف السلطان عبد الحميد الثاني، الذي أمضى معظم فترة حكمه داخل القصر، بالتعرف على ثقافات العالم، ورغبته الحثيثة في متابعة ومواكبة الجديد، وتوثيق القيم المادية والمعنوية للدولة. وتضم المجموعة التي التقطت ما بين سنة 1862 وحتى سنة 1917 أعمالا، من بينها ما طلبه السلطان، أو قام بشرائه، أو تلك التي أُهديت إليه. والمثير أن السلطان عبدالحميد الثاني زار مصر سنة 1863، وهو بعد في سن الحادية والعشرين، مرافقًا للسلطان عبدالعزيز الحاكم آنذاك، في نفس التوقيت الذي أظهر فيه اهتمامًا بجمع الصور الفوتواغرافية من أنحاء الإمبراطورية.
ومن المؤكد أنها كانت مرحلة البدايات الواعدة للتصوير الفوتوغرافي في العالم، وحضر الفرنسيان فريدريك كوبيل فيسكيه، وهوراس فيرنيه لمصر عام 1839، وكانت القاهرة والإسكندرية مقصدًا لأول جولة لهما في نفس سنة اختراع الكاميرا، والتقطا في المدينتين صورًا عدة، واستقبلهما محمد علي باشا.
وتسجل مجموعة مصر في قصر يلدز الحياة المصرية في تلك الأوقات التي ازدهرت فيها البلاد في نهاية عصر محمد علي وأولاده، والتي عنيت بالعمارة والتعليم والمشروعات والنهضة السياسية ونشر الكتب كتابة والخطط المعمارية التي اتجهت إلى التسجيل والتوثيق. وربما تكون هناك صور مماثلة في مصر لنفس الأماكن، لكن صور مجموعة يلدز تساعد حتمًا على تقديم رؤى مختلفة.
وركزت المتحدثة الثانية في المحاضرة الدكتورة عائشة ارساي يوكسل على العمارة الإسلامية في صور مصر، وأكدت أن مصر تحتل مكانة خاصة ليس لامتلاكها لتاريخ وحضارة عريقة فحسب بل لاستضافتها لنصب معمارية هامة ترجع للعصر الإسلامي.
ولهذا السبب قام مصورو القرن التاسع عشر وخاصة العصر المبكر بالتقاط اولى اهم صورهم للعمارة الإسلامية في مصر. الصور التي رافقت المحاضرة نعرفها في قاهرة المعز، من القلعة ومسجدها وأسوارها وأبوابها، ودرب اللبانة، إلى الجبانات، المساجد التاريخية، والأسبلة والأضرحة، والحياة الريفية، وفي الأماكن الشعبية والأسواق، لكن بها زوايا تصوير متنوعة ومختلفة، كما عرضت صورًا للإسكندرية والآثار الفرعونية في الجيزة والأقصر، كما توجد قلاع وأبنية عسكرية ودينية وسكنية، وصور لشواطئ النيل والجسور والحدائق العامة.
واعترفت الدكتورة يوكسل بأن مئات الصور الموجودة في قصر يلديز كنز لا نظير لها تنتظر البحث لما له من ثراء معلوماتي، وهذا صحيح.
ولا أضيف جديدا إذا قلت إن تركيا تسعى لتحسين علاقاتها مع مصر ويبدو أن السفير التركي الجديد صالح موطلو شن الذي قدم أوراق اعتماده أخيرًا يخاطب عقل الأمة المصرية من خلال مثقفيها، وبطلب النقاط التي يمكن أن تكون مضيئة في علاقات البلدين. وفي الوقت ذاته يقدم فصلا جديدا في القوى الناعمة لتركيا؛ فبعيد وصوله إلى القاهرة أقام حفلا لإحياء ذكرى الأميرة قدرية أبنة حاكم مصر السلطان حسين كامل، الأميرة المصرية التركية، باعتبارها نموذجا مشرفا للأمتين، ثم يقيم معهد يونس إمرة (المجلس الثقافي التركي) تحت رعايته ندوة ومعرض صور مصر في قصر يلدز. ويشدد مدير المعهد أمين بويراز، على أن هناك الآن تفاعلا قويا بين البلدين بدءًا من المستوى الثقافي إلى الفني ومن الصعيد الاقتصادي وحتى التعليمي.
هذه الخطوات المحسوبة هي من تعيد ترتيب علاقات البلدين على أساس المشترك الحضاري، وهو ما ركز عليه السفير في كلمته، إنها ليست صور مصر في يلدز فحسب، بل هي لإلقاء الضوء على الروابط التاريخية والثقافية بين البلدين.