طوكيو: هموم أمنية وسياسية غير مسبوقة، يلمسها أي عابر سبيل، أو زائر، أو حتى مراقب، للتطورات باليابان، وقد باتت أكثر تعقيدا وخطورة عقب الكشف عما يسمى بفضائح التمويلات السياسية، غير المشروعة، المنسوبة للحزب الحاكم.
في اليابان، كما في العديد من الدول الآسيوية، يحتل برج التنين مكانة ثقافية متميزة في التقاليد والأساطير الشعبية، في ضوء الاعتقاد بقدرات التنين الخارقة وبأنه يجلب الحظ والقوة، غير أن سنة التنين، 2024، وفقا لعلم الفلك والتقويم القمري، لم تحظ بالاحتفاء المعهود، وشككت الميديا اليابانية من اندلاع النيران.
حالة التوتر الأمني المحيطة باليابان، إقليميا ودوليا، دفعتها إلى إعادة النظر في الثوابت المتبعة في سياستها الدفاعية، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وخلال زيارتي لطوكيو في شهر أكتوبر الماضي، قرأت تصريحا منسوبا لوزير الدفاع، كيهارا مينورو، كشف فيه النقاب عن جهود اليابان لتسريع تعزيز دفاعاتها، بشراء نحو 900 صاروخ كروز أمريكي، من طراز توماهوك، في مسعى "لامتلاك قدرات هجومية مضادة، ولردع أي هجوم صاروخي من دولة أخرى بشرق آسيا".
الوزير كيهارا فسر الحالة الأمنية، المتفاقمة، المحيطة باليابان، بقوله: "أصبح من الصعب على نظامنا الصاروخي -الحالي وحده- أن يتعامل مع النمو الكبير، كما وكيفا، للقدرات الصاروخية في المناطق المجاورة"، مؤكدا أن احتمال تعرض اليابان لهجوم عدائي يمكن تقليله، من خلال تعزيز وامتلاك قدرات الهجوم المضاد.
في أواخر الشهر نفسه، أكتوبر، أجرى الجيش الياباني تدريبا جويا مشتركا مع جيشي كوريا الجنوبية والولايات المتحدة، شاركت فيه قاذفة إستراتيجية أمريكية من طراز B-52، لأول مرة، مع طائرات مقاتلة من الدول الثلاث، بهدف رفع قدرات الردع ضد التهديدات النووية والصاروخية الكورية الشمالية، وهو ما استفز بيونج يانج لتصف التدريب بأنه يقود إلى إمكانية اندلاع حرب نووية في شمال شرق آسيا.
التدريب المشترك الثلاثي- الثاني- بين طوكيو وسول وواشنطن جرى يوم الأربعاء الماضي، 20 ديسمبر، بمشاركة قاذفة إستراتيجية أمريكية من طراز B-1، مزودة بذخائر يمكنها الوصول إلى شبه الجزيرة الكورية من قاعدة جوام في مدة ساعتين.
أيضا وخلال وجودي في طوكيو، قرأت تصريحا منسوبا لرئيس مجلس الوزراء الياباني، كيشيدا فوميئو، أكد فيه، وقتها، أن حقبة ما بعد الحرب الباردة انتهت، وقال: "تحدث تغييرات كبيرة في العصر الجديد، الدبلوماسية ومنظومة الأمن تمران بتغييرات كبيرة، وتظهر في جميع أنحاء العالم النزاعات والأوضاع الحرجة، مثلما يحدث في أوكرانيا وفلسطين، وكذلك، يبدو الوضع الأمني حول اليابان الذي أصبح –الآن- أكثر صعوبة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في ضوء تطوير برنامج الصواريخ النووية لكوريا الشمالية".
أوضح كيشيدا -كذلك- إن اليابان تخطط لإنفاق 43 تريليون ين (حوالي 296 مليار دولار) على مدى السنوات الخمس المقبلة لتعزيز قدراتها الدفاعية، بالإضافة إلى تطوير التحالف وزيادة فعالية العمليات المشتركة للقوات اليابانية مع الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية.
المخاوف الأمنية الإقليمية لليابان لم تتوقف عند حدود تطوير البرنامج النووي والصاروخي الكوري الشمالي، بل امتدت إلى هواجس من تسريع وتيرة تحديث وتنويع وتوسيع القدرات النووية الصينية، في ضوء ما أشارت إليه تقديرات وزارة الدفاع الأمريكية من أن بكين ثبت حيازتها لـ 500 رأس نووي في شهر مايو الماضي، ويرجح زيادتها إلى ألف في 2030، لترتفع إلى 1500 رأس في 2035.
في الوقت نفسه، تمر العلاقات اليابانية- الروسية في أصعب حالاتها، وتحديدا، في ضوء موقف طوكيو المساند للعقوبات الغربية المفروضة على موسكو نتيجة لحرب أوكرانيا. وتجدد اليابان رغبتها بضرورة إبرام معاهدة سلام وتسوية مسألة جزر شمالية تسيطر عليها روسيا بشكل غير شرعي، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
موسكو ردت على مطلب طوكيو، المتجدد، بإعلان وقف اتفاق عام 1993، لتفكيك الأسلحة النووية على الحدود مع اليابان، وأعلن وزير خارجيتها، سيرجي لافروف، أن بلاده ليس لديها نزاعات إقليمية مع اليابان، بشأن ما يسمى بالأراضي الشمالية.
كل هذه التحديات الأمنية المحيطة باليابان، مع اقتراب عام التنين 2024، لا تقاس بحجم المشكلات السياسية الداخلية، التي تواجه حكومة كيشيدا، فما كادت تخرج من "حفرة" تورط نصف عدد أعضاء حزبها البرلمانيين في علاقة مشبوهة مع جماعة دينية فاسدة، لتقع في "دحديرة" فضيحة تمويلات سياسية غير مشروعة.
مشكلة علاقة أعضاء الحزب الليبرالي الياباني، الحاكم، بجماعة التوحيد الدينية المتطرفة كادت أن تتوارى عن الأنظار، بالإعلان رسميا عن ترتيبات قانونية لاستصدار أمر قضائي بحلها، أما فضيحة دفع عمولات، غير مسجلة، لمكاتب مشرعين بالحزب الحاكم، على مدار 5 سنوات، فهي أخطر تحد يواجه كيشيدا.
المدعون العامون في طوكيو قاموا بتفتيش مكاتب أكبر فصيلين للحزب الحاكم، أولهما ينسب لرئيس مجلس الوزراء الراحل، آبي شينزو، والثاني يقوده النائب البرلماني الكبير نيكاي توشيهيرو، ويعتقد أن حوالي 3.5 مليون دولار لم يبلغ عنها فصيل آبي، ويزعم أن فصيل نيكاي فشل في الإبلاغ عن حوالي 700 ألف دولار!!
بسبب هذه الفضيحة وغيرها، انخفض معدل التأييد لحكومة كيشيدا إلى 17.1% في شهر ديسمبر الحالي، وهو أول رقم يقل عن 20% منذ عودة الحزب الليبرالي الديمقراطي إلى السلطة في ديسمبر عام 2012، وانخفض معدل الدعم بمقدار 4.2 نقطة مئوية عن الشهر الماضي، ليعيد تسجيل أدنى مستوى له منذ عودة الحزب إلى السلطة، لمدة ثلاثة أشهر على التوالي، كما ارتفع معدل المعارضة 4.9 نقطة ليصل إلى 58.2%، وهو أعلى رقم منذ أن استعاد الحزب مقاليد الحكم.
المرة الأخيرة التي انخفض فيها معدل تأييد حكومة يقودها الحزب الليبرالي الديمقراطي إلى أقل من 20% كانت في سبتمبر عام 2009، عندما حصلت آنذاك إدارة رئيس الوزراء الأسبق تارو آسو، على 13.4%. وفي الاستطلاع الأخير، ظل معدل التأييد الشعبي لحكومة كيشيدا أقل من العتبة الرئيسية، البالغة 30% للشهر الخامس على التوالي، مما يشير إلى أن الحكومة قد تكون في "منطقة الخطر".
هكذا تبدو الخريطة الأمنية المضطربة -وغير المسبوقة- المحيطة باليابان إقليميا، مع بدء العد التنازلي لقدوم سنة التنين 2024، في الوقت نفسه، يسود الارتباك والقلق بكواليس الدوائر الحزبية والبرلمانية، فهل تفلت حكومة كيشيدا من نيرانها؟
[email protected]