نفضت إندونيسيا كثيرًا من الغبار الكثيف الذي علق بها إبان السنوات الماضية تحت وطأة مصاعب وتحديات بالغة الصعوبة أثرت بشدة على المواطن العادى، وضاعفت من أنينه وشكواه وأخذ يفتش عن منقذ يُخرجه بسلام وأمان من جُب أزماته الحياتية العميقة والمتكاثرة، ويضع البلاد على الطريق الصحيح لاستعادة عافيتها وتألقها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي تميزت به، حينما كانت مصنفة ضمن النمور الآسيوية خلال عهود سابقة إلى أن انزلقت قدمها وهوت إلى أسفل اقتصاديًا واجتماعيًا وماليًا.
عثرت "جاكرتا" على مبتغاها ومرادها في شخص الرئيس "جوكو ويدودو"، الذي أحدث نقلة كبيرة وفارقة، منذ توليه في ٢٠١٤، ونجح في العبور بإندونيسيا، حتى الآن، لبر السلامة والطمأنينة، إذ بلغ إجمالي الناتج المحلى ١٫٦ تريليون دولار – أكبر اقتصادات جنوب شرق آسيا - والصادرات ٥٠٠ مليار دولار، وزاد متوسط دخل الفرد ١٣٪ ليصل إلى ٤٥٠٠ دولار، ويستهدف رفعه إلى ٥ آلاف دولار، وانخفض معدل الفقر من١١٫٢٪ إلى ٩٫٧ ٪، ويسعى جاهدًا لتوفير قرابة عشرة ملايين فرصة عمل، وتحديث البنية التحتية بطول البلاد وعرضها لخدمة خطط التنمية الاقتصادية الشاملة والمستدامة.
استطاع "جوكو" الذي ينحدر من أسرة فقيرة للغاية، وواجه شظف العيش والحرمان معها، منذ نعومة أظافره، الانطلاق بقوة الصاروخ في عالم السياسة، وخلال عشرة أعوام لا أكثر تدرج في المناصب من رئاسة مدينة صغيرة، ثم حاكمًا للعاصمة، إلى أن أصبح رئيسًا استحوذ على قلب وعقل الناخب الذى أقنعه كفاءته القيادية، ورؤيته الإستراتيجية الثاقبة المعلنة في برنامجه الانتخابي، الذي لم يترك شاردة ولا واردة من هموم المواطن الثقيلة إلا ضمنها فيها، وظل دائما وسط الناس يتواصل ويتفاعل معهم بدون حواجز ولا أسوار حائلة، مما مهد له السبيل للفوز بولاية ثانية في ٢٠١٩.
أعلى الرجل من قيمة الأخلاق والإنسانية، وجعلهما مرجعية لازمة وواجبة لمعظم أفعاله وسياساته، مستندًا لتجربته الشخصية التي لم تكن سهلة ولا رغدة، وبقيت حاضرة وشاخصة أمام ناظريه وهو يواجه مشكلات، مثل العشوائيات، وإعاقة الباعة الجائلين حركة المرور بالمدن الكبرى والصغرى، وتحسين جودة التعليم والخدمات الطبية، وملف الطاقة المكلف، وحماية الرقعة الزراعية، وأن تمتد يد التنمية لمختلف المناطق دون تمييز، مثلما جرى في الماضي فذلك في نظره كان خطأً لا يغتفر وتسبب في فجوات رهيبة بين المواطن وحكومته، وبات الفتور سمة بادية وطاغية على علاقة الطرفين.
بنى "جوكو" تجربته الثرية على دعائم وركائز ثلاث رئيسة، هي العدالة الاجتماعية، ووقوف الجميع على خط واحد، بصرف النظر عن انتماءاتهم العرقية والدينية والثقافية، فقد وظف التنوع الذي تشتهر به إندونيسيا لميزة إضافية وليس عائقًا، والثانية أن البنية التحتية أداة للازدهار والتنمية بمفهومها الشامل، خصوصا بالريف، وتحريك عجلات الاقتصاد الراكد، واستكمال المشروعات المتوقفة والمخطط لها، والتغلب على الحالة المزرية و المتدهورة للطرق.
أما الثالثة فكانت تعظيم الاستفادة من الموارد والثروات الطبيعية والبشرية الزاخرة بها البلاد، وأهمها المقاصد السياحية الخلابة، وابتكار الحلول غير التقليدية لما يستجد من متاعب وعقبات، وتشجيع الشباب - يشكلون ٦٠٪ من تعداد السكان البالغ نحو٣٠٠ مليون نسمة - على الابتكار، والاعتناء الزائد بالتعليم الفني، والمشاريع صغيرة ومتوسطة الحجم كرافعة للاقتصاد الوطنى، وتسوية النزاعات الناشبة على الأراضي الزراعية التي أهملت؛ نظرًا لتفرغ أصحابها لإثبات حقهم فيها في ردهات المحاكم، والاحتكام للقوة لحسمها، وهو ما أدى إلى سقوط قتلى ومصابين عديدين.
جنى الإندونيسيون الثمار الطيبة بحراك السياسة الداخلية، وتنشيط الأحزاب ودورها المجتمعي والسماح لها بحرية الحركة، وتدعيم كوادرها وإفراز أجيال جديدة من السياسيين القادرين على تحمل المسئولية والقيادة، وجلهم من الشباب النابه الواعي الذي نال فرصته كاملة لإظهار مواهبه وقدراته، وهؤلاء كانوا وقودًا لحملات جوكو الانتخابية المحلية والرئاسية، واختار بعضهم ليكونوا مستشارين له بالقصر الرئاسي.
هذه الثمار ليست مؤقتة ولن تكون في مهب الريح، لكي تعصف بها، فهى مؤسسة على أرضية صلبة، وتتنامى بوتيرة ومعدلات ترضي الرأي العام الذى يقوم بمهمته في معادلة الشراكة بالعمل الجاد لمساعدة السلطات الإندونيسية على تنفيذ مخططاتها التنموية الطموحة، وفتح الآفاق الرحبة لمزيد من النجاحات والتجاوب مع تطلعات المواطنين وآمالهم العريضة في الرخاء والتنمية والعدالة الاجتماعية.