تعلم من الشاب الغزاوي أن تجعل من الهم جسرًا تعبر عليه، وتعلم من الفتاة الغزاوية المكلومة ألا تستسلم إذا فقدت من أحبة، فإن هناك عشرات الأيادي من قومها تمتد إليها لترفعها مكانًا عليًا، والكل في سباق لجبر خاطرها، والشيخ الكبير تعلم من الشيخ الغزاوي أن سواعده تستطيع أعادة رفع قواعد بيته المدمر مرة ثانية، وأن لديه القدرة على تحويل ركام منزله إلى بناء شاهق.
وتعلمت أمهات لا حصر لها من الأم الفلسطينية الثكلى أن عطاء الأمومة لا يعرف شحًا ولا أنانية، وأن يكون العطاء بلا حدود، لكي يصل إلي أبناء بلدتها كافة، وتعلم آلاف الصغار من حول العالم من طفل غزة أن الحكمة ليست حكرًا على كبير السن، وتعلمت الرجال من أبطال غزة أن الشريف من عاش حرًا مرفوع الرأس، وفي كل يوم يتعلم المشاهدون من حول العالم من ثبات أهل غزة أنه لا مكان للضعيف على الأرض؛ ولذا يصدق على المواطن الغزاوي وصف الشاعر العربي مصطفى الغلاييني:
لا يرتضي الذل أن ينزل به أبدا ** إلا الجبان الوضيع النفس والشيم
إنها صور حية يقف أمامها الإنسان عاجزًا عن وصفها، غير أنها دروس ومواقف بطولية استقوها من قدوتهم النبي محمد "صلى الله عليه وسلم"، كان فردًا فصار أمة، فأصبح الواحد اثنين بعدما أخبر أم المؤمنين خديجة بنزول الوحي، ثم بشرته أن الله لن يخزيه، وقدمت له كل غالٍ ونفيس حتى تنتشر دعوته، ولم تمر سويعات حتى يؤمن معه أبوبكر بدون تردد، ليصير أول رجل في أمته، ويكرر نفس عطاء سيدة أهل الجنة، ويعطي للنبي "صلى الله عليه وسلم" كل ماله بنفس راضية، ويطمئن الحبيب أنه ترك الله ورسوله لأولاده.
هكذا تتلمذ الفلسطينيون على موائد الصحابة، وكانت مرآتهم ثبات المؤمنين الأوائل خلف الرسول، وتتعلق في أذهانهم بشرى سيد الخلق لآل ياسر بأن موعدهم الجنة، برغم أن أيدي طغاة تنزع أحشاءهم، وإذا بآلامهم وأحزانهم تشدو بصرخات البشرى بلقاء الله.
ولا تلين عزيمة الصحابة، بل تزيد إصرارًا على كسر حصار صناديد قريش لهم، ولم تكن لغة الاستسلام أحد مفردات أدبياتهم، وفي خضم هذه الفعاليات أخذت تتشكل ملامح دولة الإسلام، ويفتح رسول الله مكة، ويحطم أصنام الكعبة، ويطهرها من تدنيس الشرك، ويستمر القائد في مسيرته ومن وراءه رجال كان دستورهم النصر أو الشهادة.
وأصبح دستورًا لكل رجال الأمة على مر العصور، وهو ما سجله التاريخ في موقعة حطين، وفي معركة بلاط الشهداء التي دارت في رمضان 114هـ، وفي فتح الأندلس على يد طارق بن زياد، وفي عين جالوت في 25 رمضان عام 658 هـ، وفي حرب أكتوبر في العاشر من رمضان.
ويتلقف رجال غزة بل كل الفلسطينيين تلك الروح الإيمانية الصلبة من الأوائل والسابقين من رجال أمة محمد "صلى الله عليه وسلم"، ويضعونها نصب أعينهم، لتكون وسيلتهم في تحرير المسجد الأقصى، ويعتزمون على مواصلة جريان نهر روح المقاومة في نفوس الأجيال القادمة، برغم شدة وطأة نار حرب الإبادة الصهيونية.
وفي النهاية يرسم صمودهم لوحة تبهر العالم، وتفجر مشاعر الغضب بداخل الملايين، لتخرج المظاهرات الحاشدة من قلب عواصم كبار الداعمين، لكي تعلن رفضها لأول مرة لسياسة الصهيونية الدموية.
[email protected]