نعم هناك تطور كبير في ردود الأفعال الدولية على المستوى السياسي والشعبي تجاه الحرب الضارية في بقعة صغيرة معزولة كانت بالأمس أكبر سجن في العالم، فزيد على ذلك أكثر المناطق المنكوبة على وجه الأرض، ومن ثم فإن هذا التطور لا يضاهي أو يمثل نذرًا يسيرًا من استمرار همجية ووحشية وبربرية الكيان الإسرائيلي المحتل تجاه العزل من أطفال ونساء وشيوخ وشباب أطفال غزة، ولا يتوقف حتى هذه اللحظة عداد الشهداء في تلك الأرض الأبية الصابرة، وقد ارتفع عدد الشهداء بالقطاع إلى أكثر من 17 ألفًا بينهم نحو ثمانية آلاف طفل، وأكثر من 6 آلاف امرأة.
إنها إذن الصورة الأوضح على مر التاريخ، والتي يعجز مصور بارع في التقاطها مظهرًا تفاصيل هذا التناقض الكبير بين التشدق الأمريكي والأوروبي ـ طوال الوقت ـ بالديمقراطية وحقوق الإنسان والالتزام بالقانون الدولي، ويبقى الإطار الداكن الذي يناسب تلك اللقطة التاريخية الأبدية، حين تقرأ خبرين متعلقين في توقيت واحد، يقول أحدهما: "أمريكا تعلن عن تقديم مساعدات إنسانية إضافية للشعب الفلسطيني"، بينما ظل الجسر الجوي الأمريكي الذي بدأ في اليوم الثاني من الحرب، مستمرًا بالدعم العسكري لجيش الكيان، بل ركز بعد ما سُمي بالهدنة، على الذخائر المتفجرة والفوسفورية وأنواع مختلفة من الذخائر المدمرة التي تستخدم لتدمير المنشآت وتسبب أكبر خسائر بشرية، ومن ذلك طائرات شحن عسكرية طراز C-17، والتي نقلت 5400 قنبلة ذات رؤوس حربية من طراز Mk84 تزن ألفي رطل، و100 قنبلة Blu-109، خارقة للتحصينات الخرسانية، و3 آلاف قنبلة JDAM، و57 ألف قذيفة مدفعية، و15 ألف قنبلة، و5 آلاف قنبلة غير موجهة من طراز Mk82، و1000 قنبلة ذات قطر صغير طراز GBU-39، ليعلن رئيس أركان الاحتلال هرتسي هاليفي بدء المرحلة الثالثة من العدوان على غزة، مؤكدًا أن قوات الاحتلال تحاصر مدينة خان يونس في جنوب قطاع غزة، وتحيط القوات البرية حاليًا بأكبر مدينة في جنوب القطاع - خان يونس، التي تشهد الآن أعنف المعارك الضارية وأشد صنوف الإجرام بحق المدنيين، وصولا إلى مخيم رفح الذي يؤوي نحو 260 ألف فلسطيني وزيد إليهم عشرات الآلاف، وكل ذلك بحجة تصفية المقاومة وحماس، لكن المقروء هو تنفيذ مخطط صهيوني جديد بنزوح الفلسطينيين إلى آخر نقطة على الحدود مع مصر، وتهجيرهم قسريًا بدعم أمريكي كامل، حيث طلبت إدارة بايدن مؤخرًا من الكونجرس الموافقة على بيع 45000 قذيفة لدبابات ميركافا لإسرائيل.
وبعد خمسٍ وستين يومًا من الوحشية والهمجية وحرب الإبادة التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، والذي يعد امتدادًا لسلسلة من جرائم الاستباحة وعمليات التجريف والقتل والإعدامات الميدانية ومصادرة الأراضي الفلسطينية المحتلة، يتوسع النطاق شاملًا الضفة الغربية، التي تواجه نوعين من الجيوش جيش الاحتلال من جهة، وجيش المستوطنين المسلح بمختلف أنواع الأسلحة الذي يمارس جرائم القتل بحق الأطفال وأهل القرى والمخيمات بجميع أنحاء الأراضي المحتلة، وتظل النغمة الأمريكية قائمة بتأكيد واشنطن ضرورة حماية المدنيين، وفي الوقت ذاته يستمر قتل المدنيين بلا أدنى ذرة ضمير بأسلحة أمريكية، بل وتستخدم حق النقض "الفيتو" الذي يعرقل جهود وقف حرب الإبادة التي تمارس على الشعب الفلسطيني، وتلبية الاحتياجات الإنسانية لأهالي القطاع، وهي واثقة من انكسار ميزان العدالة الدولية، ليخرج جوش بول، المسئول السابق في وزارة الخارجية الأمريكية، ويعلنها صراحة قائلًا: "لا أستطيع أن أتذكر وقتًا من خبرتي أنني رأيت فيه مثل هذا الانفصال بين قيمنا وأفعالنا، أو بين وجهات نظر قيادتنا السياسية والحقائق على الأرض".
وفي ظل تلك الأوضاع وهذا العبث والمهازل الإنسانية، تستمر الفصائل الفلسطينية بقطاع غزة في مقاومتها، بل وتعلن تصديها لتوغل جيش الاحتلال على عدة محاور في قطاع غزة، وإيقاع عدد من الجنود بين قتيل وجريح، حتى بلغ عدد قتلاهم من الجنود نحو 500 جندي، سواء من المسافة صفر، أو بالقذائف المضادة للأفراد، فضلا عن تدمير نحو من 5 إلى 15 آلية عسكرية كل أربع وعشرين ساعة، بالإضافة إلى استمرار القصف بالرشقات الصاروخية تجاه تل أبيب ومستوطنات أخرى.
أما التطور الجديد على الساحة السياسية، فهو إرسال أنطونيو جوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة، خطابا لمجلس الأمن بشأن غزة، متطرقًا للمرة الأولى منذ توليه الأمانة العامة، إلى المادة 99 من ميثاق المنظمة الأممية، والتي نادرًا ما تستخدم وتخوله لفت انتباه مجلس الأمن إلى أي مسألة يرى أنها قد تهدد حماية السلم والأمن الدوليين، كما اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة، بأغلبية ساحقة، 5 قرارات لصالح القضية الفلسطينية، وقد حصل القرار الخاص بتقديم المساعدة إلى اللاجئين الفلسطينيين على تأييد 168 دولة، مقابل اعتراض 1 وامتناع 10 دول منها أمريكا، وحصل القرار المعني بعمليات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) على أغلبية 165 دولة، واعترضت عليه 4 دول منها أمريكا، وحصل القرار الخاص بممتلكات اللاجئين الفلسطينيين والإيرادات الآتية منها على تأييد 163 دولة واعترضت 5 دول منها أمريكا، وحصل القرار الخاص بالمستعمرات الإسرائيلية في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، والجولان السوري المحتل، على تأييد 149 دولة واعترضت 6 دول منها أمريكا، وحصل القرار الخاص بأعمال اللجنة الخاصة المعنية بالتحقيق في الممارسات الإسرائيلية التي تمس حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني وغيره من السكان العرب في الأراضي المحتلة، على تأييد 86 دولة، مقابل اعتراض 12 دولة، منها أمريكا، ليظهر بوضوح ودون أي اعتماد على تصريحات الموقف الأمريكي من الوجود الإسرائيلي بالأراضي الفلسطينية وترحيب واشنطن بأي تجاوز وانتهاك وجرائم، ومحاولة تغطية تلك الجرائم بأقوال متناقضة.
وأمام هذه المتغيرات، فربما يجدر بالجبهة العربية والإسلامية والدول الحليفة والصديقة، السعي بدأب وجهد أكبر في تغيير لغة الخطاب ومحاولة اكتساب مساحة أكبر من المكاسب ورفع سقف المطالب الواجبة، أي العمل على تغيير قواعد اللعبة، فالمادة 27 من ميثاق الأمم المتحدة ـ مثلا ـ تمنع الدول دائمة العضوية من ممارسة التصويت إذا كانت طرفًا في النزاع، ومن واقع الأحداث سواء عن طريق الإمداد بالأسلحة المستمر للكيان المحتل، وفقًا لتصريحات وزير دفاعها، أو ما ذكرته مؤخرًا الفايننشيال تايمز، وكذلك الدعم بالمواقف الرسمية، ومن ثم فقد أصبحت أمريكا طرفًا في النزاع، وبالتالي لا يمكن لها التصويت، وكذلك العمل بإصرار على تقديم حكومة نتنياهو إلى المحاكمة، بعد توثيق جرائم الحرب التي ارتكبها جيش الاحتلال وتقديمها للمحكمة الجنائية الدولية لمحاسبة المتورطين، فالقانون الدولي يعطي الأطفال حماية خاصة؛ لأنهم من الفئات المستضعفة وغير مشاركين في أي أعمال عدائية، والعمل بشكل متوازٍ بل وقبل ذلك على دعم التقارب الفلسطيني الفلسطيني بقوة، مع الدفع باتجاه إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، ولها كامل السيادة.