الرواية مكتوبة، والسيناريوهات جاهزة، ومسارح العمليات مكشوفة، وشخصيات الممثلين واقعية، والمخرج معلوم.
مؤلف الرواية يتخلى عن الغموض أخيرًا، يحطم النظام الدولى الذى ارتضاه، ويقيم آخر بمعايير قاتلة.
يبدأ نظامه برسائل دامية من غزة، يشجع فيها أدواته العاملة لارتكاب مجزرة بشرية فى وضح النهار.
حظ غزة مع المؤلف أن تكون رسالة أولى، يريد أن تتلوها رسائل متشابهة، تصل إلى العناوين المختارة، يحملها ساعى بريد مضمون، يستعد للقتل عند الإشارة.
والإشارة شديدة الوضوح الآن، تتخذ من هدم البنايات على رءوس ساكنيها سطورا، وقتل الأطفال والنساء والشيوخ فلسفة، وتدمير المستشفيات والمراكز الصحية مصيرا، وتصفية الصحفيين والإعلاميين، والموظفين الدوليين جوهرا، وتجريف الأحياء السكنية بالكامل، وتحويل الحياة إلى جحيم لا يطاق حالة معتادة.
غزة تفى بالغرض، مساحة صغيرة، كثيفة السكان، تتفاعل فيها العقائد والأديان، محاصرة البحر والمحتل، تصبح مسرحا مثاليا لتجريب الرسالة الملغومة.
الرسالة وصلت إلى عواصم إقليمية، كانت تصرخ ليل نهار، بأنها موجودة للدفاع عن المقدسات ساعة «الحظ»، وجاءت الساعة فابتلعت ألسنتها، واكتفت بالمطالبة والمناشدة لأصحاب المجزرة أحيانا، والتهديد والوعيد الدبلوماسى أحيانا أخرى، بينما الفلسطينى فى غزة والضفة الغربية والقدس يواجه أكبر آلة جهنمية عاريًا من «السند».
أما الرسالة الأخطر، فهى حالة التكيف والاعتياد على مشاهد الدماء، والقتل المباشر عبر الشاشات والصور، واعتياد الموت سيجعل الأمر طبيعيًا، حال جرت وقائع أخرى فى أى مدينة يقع عليها اختيار ساعى البريد، ثم اعتياد الحياة مع هذه الرواية فى طبعتها الأحدث.
ثمة رسالة أخرى أشد مكرا من الأولى، فحين جرت فصول الحرب، طار الدبلوماسيون الغربيون إلى عواصم معينة، سلموا أصحابها رسالة خفية، بأن عليهم أن يبتعدوا ، وألا ينخرطوا فى الرواية، أو التوسع فيها، فأحنوا رءوسهم مرغمين، واكتفوا بالمناشدة، والمناوشة.
بقيت فلسطين وحدها كجغرافية مغبونة، ينفرد بها القاتل الإسرائيلى، يقصفها بأكثر من 40 ألف طن من المتفجرات والقنابل والصواريخ، والفسفور الأبيض، ودانات المدافع، ويرمى عليها القنابل عبر أكثر من 10 آلاف غارة جوية.
أى رعب هذا؟ وكيف تتفوق غزة فى استلام القنابل بأكثر ما استلمته المدن الألمانية بالكامل فى الحرب العالمية الثانية؟
يبدو أن مؤلف الرواية كان فى عجلة من أمره، يريد أن يتخلص من ميراث قديم، ميراث قضايا وملفات عالقة من أيام الحروب الأوروبية، ويتفرغ لكتابة سيناريو عالمى مختلف، لا تزاحمه فيه أية فكرة سياسية، أو اجتماعية، أو اقتصادية.
هل هو الجنون السياسى؟
لا يرى المجنون فى نفسه مجنونا حقا، ولا يفكر فى اليوم التالى لنهاية أى حرب، يعتقد أنه سينتصر كالعادة، وأن رسائله وصلت إلى العناوين.
والشاهد أننا أمام جماعة سرية، لديها تصور كامل عن العالم الذى يجب أن يكون، راحت تكتب وتخطط، وتنفذ دون أن تصدها عواصف، تؤمن بأن الفرصة مواتية الآن، فى عالم تسوده قوة واحدة، تحاول بعض القوى مزاحمتها فى السيطرة على مقادير البشر.
يشاء حظ غزة أن يصل إليها ساعى البريد مبكرا، ويشاء حظها أن تكون أرض الاختبار، تقرأ الرسالة قبل الآخرين، وعلى الآخرين أن يعلقوا الأجراس فى رقاب القطط، فاليوم التالى لنهاية المحرقة الإسرائيلية للشعب الفلسطينى لن يكون كاليوم السابق عليه، فلا تسمحوا للمجانين بقيادة البشر إلى المجازر.