رفضت الطفلة ألما 12 عامًا الخروج من تحت الأنقاض في غزة، وقالت لهم: "أمانة أخرجوا أمي وأبي وإخوتي وجدتي قبلي، واجعلوني أنا في الآخر، لا أريد الخروج قبلهم.
التعب على كل الوجوه الحزن في العيون والقوة تعلن عن نفسها في الكلمات، كل 10 دقائق تزهق روح طفل غزاوي وشهداء تحولوا إلى أشلاء وتم دفنهم في كفن واحد.
سوف نبقى هنا.. كي يزول الألم
سوف نحيا هنا.. سوف يحلو النغم
موطني موطني.. موطني ذا الإباء
موطني موطني.. موطني يا أنا؛ كلمات رددها بقوة الأطباء في غزة بعد قصف المستشفيات، وأنشدها الصحفيون بثبات في غزة بعد اغتيال بعضهم، ويقولها بعقولهم وقلوبهم وأعمارهم سكان غزة صغارًا وكبارًا ومن كل الأجيال..
في مشهد يجسد شموخ غزة رغم ما يتحملونه مما لا يطيقه بشر؛ رأينا الجد يرفع يديه بعلامة النصر فوق ركام بيته، والابن يضع يده على جدار متهدم ويشرب كوبًا من الشاي، والأطفال يفترشون الأرض ويبتسمون ويتضاحكون وهم يرفعون أيديهم الصغيرة بعلامة النصر، وقلوبهم "توقن" بحتمية الانتصار الكبير والعظيم ولو بعد حين؛ وإلا لما جلسوا هذه الجلسة بعزة وشموخ.
في غزة يمتزج الألم الفردي بالألم الجماعي بمرارة الفقد وانتظار الدمار وتوقع الموت في أي لحظة للنفس ولمن يحبه أيضًا، ويرفضون "بقوة" التسليم بمشاهد ما بعد القتل الممنهج والقصف المجنون، واغتيال "كل" ما يمت للحياة، وجعل غزة كالجحيم لمن يعيش فيها، والخيام المنتشرة في كل مكان تغطي ثقوبها بعض الملابس التي نجح من تهدمت بيوتهم في "انتزاعها" من الأنقاض، والأدخنة المنبعثة من التدفئة بأعواد الأشجار أو بسبب الطهي عليها والتي تصيب الصدور بالاختناق، ولا أحد يمتلك "رفاهية" الذهاب للمشافي للعلاج؛ فلا توجد سيارات والعدد القليل جدًا من المستشفيات التي نجت من القصف تزدحم بالمصابين والجرحى الذين ينزفون، ونساء يلدن قيصريا بلا مخدر!! وجراحات تُجرى للصغار وللكبار بلا تخدير وبأدوات بسيطة جدًا، ولا توجد أدوية وإن وجدت في الصيدليات فأين المال لشرائها؟ في الوقت الذي تضاعف فيه الغلاء فيما تبقى من المواد الغذائية اللازمة للبقاء على قيد الحياة.
في غزة تاهت ملامح الشوارع والأحياء وكيف لا، وقد اعترف الصهاينة بأنهم ألقوا على غزة الآلاف من أطنان المتفجرات في شهرين وهي أكبر مما ألقي في الحرب العالمية الثانية في أربع سنوات.
كما تم محو عشرات الأسر بأكملها من السجلات المدنية، وكذلك بعض الأحياء.
اليقين بالنصر ملاذ لأهل غزة؛ واليقين هو الثقة بقدوم الفجر في شدة الظلام وليس قبله بقليل، يأتي اليقين فقط من الإيمان بأن الخالق عز وجل سينصرهم وسيكونون من الفائزين، وأنهم أصحاب حق وأنهم يبذلون أقصى ما يمكنهم، وكما قال شاب غزاوي خرج من تحت الأنقاض: "إيش بدنا نعمل نصبر ونصابر قوتنا في الدعاء".
أهل غزة -إن استطاعوا النوم- ينامون في انتظار المجهول، قبل العدوان كانت لديهم مشاكل الحصار وقلة فرص العمل وصعوبة السفر خارج غزة، وبالطبع صعوبات الحياة العادية التي تواجه الناس في كل العالم، بالإضافة إلى الحصار، وفي الحرب تضاعف الوجع بشراسة.
في الهدنة تراوحت مشاعر الناس بين الفرح "المؤقت" والحذر المقترن بالأمل المحسوب في توقف دائم للقتل، وليس للقتال، وبين المسارعة لرؤية ما حدث لبيوتهم أثناء مغادرتهم الاضطرارية لها بحثًا عن مكان أقرب للأمان، ومع الأسف فلم يكن هناك مكان آمن في غزة.
في الهدنة سارع الغزاويون بالاطمئنان على الأهل والأقارب والجيران بعد انقطاع تام لخدمات المحمول والإنترنت، وشراء ما يمكن شراؤه والبحث عن مياه صالحة للشرب وبعض الطعام الذي يمكن أن يهدئ جوع الأطفال، والبحث وسط الأنقاض عن بعض المقتنيات والمساعدة أيضًا في رفع جثث بعض الشهداء، التي اختفت ملامح بعضها من شدة نيران القصف وتوحشه.
في الهدنة نعم الغزاويون مؤقتًا بنوم بلا سماع صوت القنابل ولا الصواريخ؛
ناموا لأيام بلا فزع يحتضنون أطفالهم باطمئنان وهو ما افتقدوه طويلا.
في غزة لا يمتلكون رفاهية الشكوى في الواقع ولا في وسائل التواصل الاجتماعي ليس لانعدام الإنترنت إلا في أقل الأماكن ولفترات متقطعة ونادرة؛ ولكن هل سيشكو نازح رغما عنه لنازح مثله، أو أهل شهيد لأهل شهيد آخر، أو باحث عن أي فرص لإنقاذ أحد من أسرته تعرض لبتر ساقيه ويبحث عن فرص للعلاج بالخارج، أو من نفدت أمواله ولا يجد قوت يومه؟
اللافت للنظر في اللقاءات التي شاهدناها جميعًا تكرار "حسبي الله ونعم الوكيل"، ثم "الحمد لله"، فمن أين جاءوا بهذا الثبات المثير للإعجاب، والأدب الشديد في الأطفال وطريقتهم بالغة التهذيب في الكلام، والتراحم بين الكبار والصغار؟ وهو ما يلقي الضوء على أهمية التربية في البيوت، وعدم ترك الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي تربي أولادنا وبناتنا.
"ربنا ارزقنا أيدي"؛ قالها فلسطيني يرفع بيديه ردم منزله ومنازل جيرانه بحثًا عن أشلاء الشهداء وأملًا في وجود جرحى على قيد الحياة بعد استحالة وجود الآلات لرفع الأنقاض؛ فاستعاضوا عنها بالأيدي وبأدوات بسيطة.
يتناقل الغزايون أخبار الأسرى الذين تم تحريرهم من سجون الصهاينة، وهم يحكون ما تعرضوا له من تنكيل وتعذيب، وكيف حكت أسيرة محررة لتعرضها لنزع حجابها وبعض ملابسها وإجبارها على السير بدونها، وكيف عرضوا على أسيرة أخرى شرب بول! ولما رفضت سكبوه عليها، بينما سمحت المقاومة لأسيرة صهيونية اصطحاب كلبها معها، وقدموا له الطعام والشراب 50 يومًا.