الرقص حول قناة السويس مستمر لم يتوقف يومًا منذ حفر هذا الممر المائي الحيوي لكل العالم، ورغم جدارة المشروع في دعم التنمية في مصر والمنطقة من حولها، فإن الأحداث الجسام التي مرت بها والخطط التي يرسمها البعض لها قديمًا وحديثًا وعلى رأسهم دولة إسرائيل، تجلب التفكير والتمحيص في عدم حماس محمد علي باشا نفسه للمشروع ومخاوفه من الأزمات التي يمكن أن تسببها قناة السويس وطمع الغرب في البلاد حال حفرها.
أنجزت القناة بالعرق والدم، ودخلت معاركها الطويلة والمعقدة، وكانت حجر الزاوية بل والهدف في كل الحروب التي خاضتها مصر، تكاد تكون موجودة في كل تفصيلة، إن لم تكن سببًا في الحرب في الظاهر، فإنها الهدف في الخفاء، وأصبحت القناة بابًا رئيسيًا في محاور الأمن القومي المصري، وعنصرًا لا يمكن التغافل عن حمايته كأحد المشروعات الحيوية الكبرى.
وبعد استعادة مصر للسيطرة على قناة السويس بقرار جمال عبد الناصر الشجاع تأميم القناة عام 1956، وبعد صمت المدافع في العدوان الثلاثي على مصر، بدأ التفكير في بدائل لها، نكاية في مصر تارة، ومحاولة حرمانها من دخل القناة تارة أخرى، ثم منافستها واستجلاب المنافع لأصحاب التفكير في مشروعات موازية.
لقد فشلت الدول الغربية في التوصل إلى وضع تنخفض فيه الأهمية العسكرية الاستراتيجية والمنفعة الاقتصادية لقناة السويس بالنسبة لمصر، فلجأت إلى دعم المشروعات البديلة المنافسة سرا وعلنا وتحت أغطية مريبة. وطبقا لتقرير نشره موقع " CNN الاقتصادية" فإن إسرائيل فكرت في أن تتحول إلى مركز عالمي للتجارة الدولية، وبالتحديد في أن تصبح مركزًا تجاريًا لأوروبا مع غرب آسيا. وحددت حجم الإنفاق على شبكات السكك الحديدية وإدخال قطارات عالية السرعة لربط المدن والمراكز الرئيسية بنحو 35 مليار دولار، بحسب الخطة الاستراتيجية لشركة السكك الحديد الإسرائيلية لعام 2040. وافتتح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قبل طوفان غزة في 7 أكتوبر الماضي مشروع السكك الحديدية الخفيفة في تل أبيب، مشيرًا إلى ثورة في عالم النقل سوف تشهدها إسرائيل وخطط بقيمة 27 مليار دولار لربط مدينة كريات شمونة الشمالية بمنتجع إيلات على البحر الأحمر في أقصى الجنوب.
هذا الربط ضمن الترويج لما بدأت إسرائيل فيه أخيرا من استئناف العمل في قناة بن جوريون، وهي القناة التي بدأ التفكير فيها في زمن بن جوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل.
ويوضح تقرير الـCNN الذي جاء تحت عنوان "قناة السويس تحت التهديد" أن قناة بن جوريون: "تربط ميناء إيلات على البحر الأحمر بميناء عسقلان على البحر المتوسط والمتاخم للحدود الشمالية لقطاع غزة والتي من المتوقع أن تكون منافساً لقناة السويس".
لذلك فإن نيتانياهو الذي سيفقد منصبه فور انتهاء حربه على شعب غزة الأعزل، ويقتطع ما يريد من مساحته المحدودة خصوصًا في الشمال، لا يريد أن تكون قناته تشق طريقها من البحر المتوسط إلى خليج العقبة، عبر منازل الفلسطينيين في شمال غزة أو متاخمة لحدودها.
إن خريطة الصراع القادمة هي في هذه المنطقة تحديدًا والتي تؤسس فيها إسرائيل مشروعات نقل عملاقة أو "ثورة في عالم النقل" التي بشر بها نيتانياهو.
وهذا أيضا يفسر الشراسة والدموية للجيش الإسرائيلي لدفع سكان غزة العزل إلى ترك منازلهم في الشمال، مع محو هذه المنازل والأحياء من الوجود. ومن جانب آخر يعطي فكرة عن تصريحات تأتي من العواصم الغربية بأنهم يرفضون احتلال أو اقتطاع أجزاء من غزة، لأن إسرائيل في إطار التعاون الإستراتيجي لقتل عدد أقل من المدنيين، يطلعون على خطط الحرب في غزة.
إلا أن أهداف حرب غزة وأحلام التهجير القسري للفلسطينيين، كما حدث ذات يوم من عام 1948 وبعدها، تواجه ممانعة ورفضًا قاطعًا من مصر، لأن سيناء وأيضا قطاع غزة جزء لا يتجزأ من مقومات الأمن القومي المصري. كما أن قناة السويس وهي في حال تطور مستمر مهنيًا واقتصاديًا قادرة على مقاومة محاولات الإقلال من دورها كأهم شريان تجاري عالمي.
وأظن أنها غير خفية علينا محاولات انتزاع دور القناة لصالح إسرائيل وتوسعاتها ومحاولات إغراء تقدمها لآخرين في الإقليم وخارجه تحت ستار اقتصادي وعباءة سلام محتمل مزقتها حرب الإبادة في غزة، والتي لم يشهد لها العالم العربي مثيلا في تاريخه الحديث.