تمامًا كما توقعت في مقال سابق، والأمر لم يكن بحاجة إلى فطنة، بأن الاحتلال الإسرائيلي سوف يخرق الهدنة التي لجأ إليها بعد الضغوط الشديدة على حكومة نتنياهو المتطرفة من الداخل الإسرائيلي، خصوصًا من ذوي الأسرى والمحتجزين لدى حماس أولًا، وبعض أصوات المجتمع الدولي التي واجهت شعوبها المتظاهرة تنديدًا بجرائم الاحتلال التي فاقت كل تصور، بعد شنها حربًا شعواء على الأبرياء والعزل في غزة وأنحاء متفرقة من فلسطين، راح ضحيتها حتى الآن نحو أكثر من 15 ألف شهيد في القطاع، من بينهم أكثر من 6150 طفلًا، إلى جانب ما يربو على 36 ألف جريح، وقرابة 7000 شخص مفقودين تحت الأنقاض، يُرجح أنهم استشهدوا أيضًا، فضلا عن مقتل 192 من الطواقم الطبية و36 من الدفاع المدني، ونحو 92 موظفًا من الوكالة لقوا حتفهم، جراء القصف المستمر منذ 7 أكتوبر مع بداية الحرب الوحشية.
وقد تساءلنا إذا ما كان الكيان المحتل سيلتزم ببنود هذا الاتفاق المؤقت؟ أم أنه سيلجأ إلى حيلة أو ربما حجة بعدم التزام المقاومة بالاتفاق، لتواصل من جديد حربها الفاشية وهجماتها البربرية المتوحشة، التي باتت شعوب العالم كله على علم بها صوتًا وصورة، وترفضها وتدينها، والكثير من الحكومات في الشرق والغرب.
بينما لجأت واشنطن إلى خبثها المعتاد والمتوقع في سياسة الكيل بمكيالين، فبعد أن أبدى مسئولون أمريكيون قلقهم من تفاقم آثار الحرب في غزة، وبعد مشاورات ولقاءات وجولات بايدن ووزير الخارجية، والتصريحات بضرورة وقف الحرب، والاستماع إلى مطالبات تحقيق السلام لجميع الأطراف بالمضي نحو حل الدولتين، والاعتراف بدولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، نجد البنتاجون يؤكد مواصلة تقديم المساعدات الأمنية والعسكرية لإسرائيل!!
ووفق وول ستريت جورنال، قال مسئولون أمريكيون إن الولايات المتحدة زودت إسرائيل بقنابل كبيرة خارقة للتحصينات، من بين عشرات الآلاف من الأسلحة الأخرى وقذائف المدفعية، وما يقرب من 15 ألف قنبلة و57 ألف قذيفة مدفعية، ونقل 100 قنبلة BLU-109، وهي خارقة للتحصينات تزن 2000 رطل بدأت بعد وقت قصير من هجوم 7 أكتوبر واستمرت حتى الأيام الأخيرة، وأكد خبراء استخدام الاحتلال لأسلحة محرمة دوليًا، ليتواصل القصف على القطاع في اليوم السابع من الهدنة، وتستهدف الغارات جباليا شمالي القطاع، والمناطق الشرقية وقرى خان يونس جنوبي القطاع، وسوق مخيم النصيرات في الوسط، حتى أسفر استئناف القتال المستهدف للمدنيين عن سقوط أكثر من 350 شهيدًا ومئات الجرحى خلال أقل من يومين، في الوقت الذي أشار فيه مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك، إلى أن استئناف الأعمال العدائية في غزة بمثابة كارثة مروّعة.
ومع استئناف القتال اضطر فصائل المقاومة إلى استئناف عملياتهم، وقد قصفت سرايا القدس تجمعًا لجنود وآليات إسرائيلية في نتساريم بغلاف غزة، وعادت الرشقات الصاروخية باتجاه المستوطنات، وعادت صافرات الإنذار تدوي بقوة، غير أن الكيان المحتل وتابعته واشنطن لا ينتبهان إلى الخطر المحدق بالمنطقة، الذي سيطال الكيان المحتل أولًا، وقد بات كثيرون حتى في الداخل الإسرائيلي يرفضون هذا الاعتداء على الإنسانية في المقام الأول قبل أن يوجه لأبناء فلسطين المحتلة، ومنهم فنانة إسرائيلية تُدعى يولا بينوفولسكي، وقد أعلنت تخليها عن الجنسية الإسرائيلية بعد أن حملتها لمدة ثلاثةٍ وعشرين عامًا، مؤكدة أنها لا تستطيع حمل جنسية دولة تفرط في قتل الفلسطينيين وتدمر بيوتهم، وأنها كانت تعاني داخل المجتمع الذي يعاني العنصرية، وأن التاريخ الذي درسته في المدارس لا يمت للحقيقة التي عرفتها بصلة، وأن السلام لم يكن أبدا هدفًا لإسرائيل، وأنها لم تكن تعلم أي شيء عن النكبة والتاريخ الاستعماري لإسرائيل، وكانت قد رفضت الخدمة في جيش الاحتلال، متسائلةً هل تدرك إسرائيل أن كل هذا الموت يؤذي شعبها أيضا، كما طالبت كل الإسرائيليين بالتنازل عن جنسيتهم، وهي لا تريد أن تكون جزءًا مما يحدث، وتتمنى أن يتخذ أشخاص في نفس موقعها الخطوة نفسها، ليدمر الاحتلال سمعته وروايته التي استمات في بنائها طيلة عقود من الزمان.