خريف اليابان "وخريف الغضب على الجماعة"

3-12-2023 | 17:51

طوكيو: أحب خريف اليابان بقدر حبي لربيعها، وقد شاءت الظروف أن تتزامن زياراتي الثلاث الأخيرة، 2017، 2019، 2013، مع حلول فصل الخريف، حيث تتزين أوراق الأشجار باللون الذهبي، البهيج، بكل أنحاء بلاد الشمس المشرقة.

أول مرة أفتن بخريف اليابان كانت منذ نحو عقدين، وجاءت خلال زيارة أسطورية لمحافظة توياما على ساحلها الغربي، ومنذ ذلك الحين، لا تزال صورة أوراق الأشجار الذهبية-الممتدة بطول جبال المحافظة ووديانها وغاباتها- لا تفارق خيالي.

في خريف هذه السنة، 2023، أمضيت يومًا كاملًا بحديقة "كيتانومارو Kitanomaro Park"، العامة، المحازية للسور الشمالي للقصر الإمبراطوري، بقلب العاصمة اليابانية طوكيو، وبالقرب منها تقع حديقة ضريح "ياسوكوني" المثير للجدل، وكلتاهما - أي الحديقتين - تعدان مقصدًا للراغبين بالاستمتاع بخريف اليابان بمذاقه شديد الخصوصية، بما تضمانه من بحيرات وشلالات ومناظر طبيعية ساحرة، وخلابة، وتتزين الأشجار - بأوراقها الذهبية الزاهية - في أفضل إطلالاتها.

اليوم التالي، خصصته لزيارة الحدائق الغناء، المطلة على ميناء مدينة يوكوهاما، وهي: ياماشيتا، جبل فرنسا، جبل أمريكا، مرورًا بالنصب المخصص للأم والطفل، ووصولا إلى مقبرة مخصصة لضحايا الحرب العالمية الأولى من الأجانب، ومن بينهم أسماء مدونة لوفيات وقعت بفلسطين، الخاضعة - وقتها - للاحتلال البريطاني.

حدائق مدينة يوكوهاما لم تسنح ظروف عملي وإقامتي في اليابان (2001-2005) من الاستمتاع بها في فصل الخريف، وقد وصلت إلى تلك الحدائق عبر رحلة بحرية بديعة، من محطة القطار، إلى الجانب الآخر من الميناء التاريخي.

 أعود إلى حديقة "كيتانومارو"، التي تضم في إحدى جنباتها متحفي: العلوم، والوطني للفن الحديث، بالإضافة إلى صالة "نيبون بودوكان"، التي تقام فيها - عادة - المناسبات الرسمية اليابانية الكبرى، وقد حضرت العديد منها منذ عقدين؛ لأنها المرة الأولى التي أزور فيها اليابان بعد الحادث المروع لاغتيال رئيس حكومة اليابان الأسبق، آبي شينزو، فقد أثار مروري أمام "نيبون بودوكان"- التي جرت مراسم جنازة الدولة لتأبينه تحت سقفها- أقول: أثارت مشاعر من الشجن والحزن الدفين على وفاة الرجل، خاصة، أن تلك المراسم جرت في أوائل الخريف الماضي. 

الراحل آبي شينزو، الذي حقق أعلى رقم قياسي في رئاسة الحكومة (8 سنوات و8 أشهر) واغتيل يوم 8 يوليو من العام الماضي، 2022، على يد عضو من الجيل الثاني من الجماعة، جرى منحه أعلى الأوسمة، كما تم تنظيم جنازة رسمية له على نفقة الدولة، لتصبح ثاني أكبر جنازة تقام لرئيس مجلس وزراء سابق، وقد أثير حولها الجدل، بسبب ما تردد، وقتها، عن صلات الحزب الحاكم بالجماعة الدينية.

وفقًا لمقالي السابق، فإن الجماعة تأسست في عام 1954 باسم "الروح القدس لتوحيد المسيحيين في العالم"، وتغير الاسم - لاحقا - ليصبح "اتحاد الأسرة للسلام العالمي والتوحيد"، وتجري الترتيبات القانونية في اليابان، حاليًا، لاستصدار أمر قضائي بـ حلها، لاتهامها بـ "حث أتباعها على تقديم تبرعات طائلة بشكل ممنهج وخبيث ومتواصل، بما يعد انتهاكًا للصالح العام".

في المقال نوهت إلى أن أسلوب "جماعة التوحيد المتطرفة"، بدا لي وكأنه هو نفسه، الذي تتبعه جماعة الإخوان المحظورة، بالانتشار في حرم الجامعات اليابانية، واستهداف كليات النخبة، كمناطق خصبة لتجنيد أتباعها، وإغرائهم بالعمل.. وطيب الإقامة!!

تلقيت تعقيبًا على المقال من قارئ عربي مقيم في اليابان، أشار فيه إلى ما أسماه بـ الفارق الجوهري بين جماعة الإخوان المحظورة، ومنهج جماعة التوحيد الانتهازي، لاختلاف طريقة التعامل مع الدين في بيئتين مختلفتين، وقوله: "الدين في اليابان شيء.. وفي بلادنا شيء آخر، لاختلاف مستوى الجرعة منذ الصغر!!". 

وقت إقامة جنازة الدولة المهيبة لرئيس مجلس وزراء اليابان السابق، أعلن الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم أن نصف أعضائه البرلمانيين (179 عضوا) ثبت أنهم على اتصال مع جماعة التوحيد المتطرفة، في شكل: إرسال برقيات تهنئة، وإيفاد مندوبين لحضور الفعاليات. من بين المتورطين في التعامل، مثلا: كيشي  نوبوؤ، المستشار الخاص لرئيس الحكومة، ورئيس سياسات الحزب، هاجبئودا  كوئيتشي.

في تقرير حديث نشره موقع "نيبون دوت كوم"، كشف الصحفي والسياسي الياباني، أريتا  يوشيفو، العلاقة المتشابكة بين الدين والسياسة، وربطها بعلاقة عائلة الراحل آبي شينزو بجماعة التوحيد المتطرفة، وصولا لاغتياله "المدهش" بسببها.

يقول الصحفي أريتا: "في عام 1968، تم تأسيس الاتحاد الدولي للانتصار على الشيوعية في كوريا الجنوبية واليابان، وقد استخدمت جماعة التوحيد شعار "الانتصار على الشيوعية" عند التواصل مع السياسيين، لأن القيام بذلك بصفتها منظمة دينية كان من شأنه أن يثير الشكوك. ومن خلال هذا الاتحاد جرى تجنيد رئيس مجلس وزراء اليابان الأسبق، كيشي  نوبوسوكي، جد الراحل آبي شينزو".

يضيف أريتا: "أن وزيرًا سابقًا في حكومة الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم باليابان أخبره ذات مرة أن آبي هو الذي تولى العلاقة بين جماعة التوحيد المتطرفة والحزب، وأن آبي سجل رسالة فيديو مدتها خمس دقائق في شهر سبتمبر عام 2021، وتم عرضها في تجمع بالعاصمة الكورية الجنوبية، سول، موجهة لاتحاد السلام العالمي، وهي مجموعة مرتبطة بالجماعة، ويتردد أن هذا الفيديو جعل المتهم بقتله، ياماجامي تيتسويا، يقرر مهاجمته".

في رسالته بالفيديو، أدلى آبي بالتعليق التالي: "أريد أن أعرب عن احترامي لمؤسس اتحاد السلام العالمي، هان هاك جا، ولبقيتكم، للعمل مع اتحاد السلام العالمي لحل النزاعات في جميع أنحاء العالم، ولا سيما فيما يتعلق بإعادة توحيد شبه الجزيرة الكورية".

يوضح أريتا: "ظل آبي حليفًا مهمًا لجماعة التوحيد المتطرفة، حتى بعد تنحيه عن منصب رئيس مجلس الوزراء، وذلك بسبب النفوذ الذي يحظى به داخل الحزب الليبرالي الديمقراطي، وعندما كان أمينًا عامًا للحزب في عامي 2003 و2004، سألته عما إذا كانت جماعة التوحيد حاولت التقرب منه، قال آبي: إنهم فعلوا ذلك كثيرًا.. وعندما سألته عما إذا كان قد التقى بممثلي الجماعة، أجاب: إنه حاول ألا يفعل ذلك. ومع تضاؤل المخاوف بشأن المبيعات الروحية للجماعة، تقرب الراحل آبي من مسئولي الجماعة، إلى حد تسجيل رسالة فيديو لهذا الحدث الخاص بهم".

هكذا تحولت علاقة الراحل آبي شينزو بالجماعة الدينية المشبوهة إلى سبب في قتله على يد أحد أتباعها، وتكشر الدولة عن أنيابها لحلها، في "خريف الغضب".

[email protected]

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة