انشغل كثيرون بالمزايدة على مصر ودورها فيما شهدته غزة من أحداث، اعتبارًا من السابع من أكتوبر الماضي، في محاولة للصيد فى الماء العكر، وها هي آمالهم، بعد أكثر من 40 يومًا، تخيب، وسهامهم ترتد إلى نحورهم، بعد أن وصلت مصر؛ بقائدها وجيشها وأجهزتها المختلفة وشعبها الواعي، إلى ما أعلنته من اللحظة الأولى لخروج أول رصاصة، وسقوط أول مبنى وشهيد فلسطيني تحت قصف جيش الاحتلال الإسرائيلي للمدنيين، وتطبيق سياسة العقاب الجماعي، وارتكاب المجازر لفرض الأمر الواقع.
نجحت مصر في أن تمنع مخطط تهجير الفلسطينيين، وتصفية القضية الفلسطينية، بالقدر نفسه الذي نجحت فيه في إحياء القضية الفلسطينية برمتها، وإعادتها إلى المسار السياسي وإلى طاولة المفاوضات، حتى لو كان هناك بعض العقبات التي تحتاج إلى وقت لتجاوزها، وذلك بعد أن كان العالم كله يتجه نحو تصفية القضية بالحل العسكري، وتهجير الفلسطينيين، بدلًا من إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية.
كانت مصر تدرك بحنكة قائدها الرئيس عبدالفتاح السيسي، وخبرات أجهزتها ومؤسساتها، أن رحى الحرب ستتوقف يومًا ما، مهما كان غبار المعركة كثيفًا، دون منتصر أو مهزوم، لذا اعتمدت مصر على عنصر المبادأة، وكان الطرح الذي احترمه العالم كله، وعاد إليه سريعًا، ألا وهو: لا إنهاء للقضية الفلسطينية، إلا بحل الدولتين، وإقامة الدولة الفلسطينية عبر مسار المفاوضات، التي أهالوا عليها التراب في السنوات الأخيرة.
ألم يقل الرئيس عبدالفتاح السيسي: "منذ اللحظة الأولى لانفجار شرارة هذه الحرب، أدارت الدولة المصرية الموقف بمزيج من الحسم في القرار، والمرونة في التحرك، والمتابعة الدقيقة لمجريات الأمور، وتحديث المعلومات بشكل موقوت، والتواصل المستمر مع كل الأطراف الفاعلة، وقد تشكلت خلية إدارة الأزمة من كل مؤسسات الدولة المعنية، تابعتُ عملها بنفسي، وعلى مدار الساعة".
إذن.. خططت مصر وأدارت واحدة من أكبر الأزمات التي من الممكن أن تتعرض لها الدولة، وهي تحت شدة الأدخنة المتصاعدة من قطاع غزة، تجري عملية توازن سياسي بارعة، تراعي فيها غضب مؤيدي إسرائيل، ومصالح البلاد مع العالم كله، وتسعى بكل قوة لوقف نزيف دماء الأشقاء غير المسبوق.
ولم تفقد مصر الأمل ساعة واحدة، حتى مع الصمت العالمي، والتأييد الأعمى للمعتدي، وفتحت اتصالات مع العالم كله، وها هو العالم الآن يسمع لما قالته مصر وينفذ، فهل هناك نجاح سياسي أفضل من هذا؟!
ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه بكل قوة.. كيف حققت مصر أهدافها المعلنة، وكيف وصلت إلى هذه النتائج التي جاءت في صالح البلاد أولًا، ومع الأشقاء في فلسطين ثانيًا؟
بحس القائد، راهن الرئيس السيسي من البداية على وحدة المصريين واصطفافهم، لأنه يعلم أنها الضامن لبقاء مصر، بعد إرادة الله سبحانه وتعالى، والثابت الذي لا يقبل التغير أبدًا، وتلك كانت القوة الأولى التي اعتمدت عليها الدولة المصرية في خوض شوط طويل في التعامل مع أزمة جسيمة تهدد المنطقة بالكامل.
ولم تتوقف التحركات المصرية ليلًا أو نهارًا، وشهدت القاهرة أول قمة بمشاركة دولية وإقليمية واسعة، من أجل الحصول على إقرار دولي بضرورة وقف هذا الصراع، وأيضًا المشاركة في القمة العربية الإسلامية، إضافة إلى اتصالات مكثفة مع القادة والمسئولين الإقليميين والدوليين، وكان الإصرار المصري على تدفق المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، مع إعلان الموقف المصري الرافض والحاسم لمخططات تهجير الفلسطينيين قسريًا، سواء من قطاع غزة أو الضفة الغربية إلى مصر والأردن، وقرار استمرار فتح معبر رفح البري، لتدفق المساعدات الغذائية والطبية والوقود، وكذا استقبال الجرحى والمصابين.
واعتمد الرئيس السيسي على قوة الدولة المصرية، التي بُنيتْ في 10 سنوات، فحققت مصر ما كان مستحيلًا لو أن البلاد في حالة تفكك وانقسام، وجاءت قوة الدولة من استقرارها، وتسليح وتحديث جيشها، والعلاقات الجيدة مع كل دول العالم، وأيضًا القوة الاجتماعية التي جعلت المواطن يدرك الآن أن ما اقتطعه من دخله، لم يذهب هباءً، وإنما حمى الدولة وأهلها، وهو ما لم يكن يحدث في حالة ضعف الدولة في كل المناحي.
وفي النهاية، لا يسعني إلا أن أقول إن مصر قطفت في هذه الأزمة ثمار البناء والتنمية، من زيادة قوة الجيش العظيم، ووعي الشعب، وكفاءة الأجهزة والمؤسسات المختلفة، وانفتاح على العالم، وإعلام وطني حمل رسالة مصر، وشارك بمصداقية في إعلاء صوت الدولة، وقبل كل هذا قيادة محنكة، تضع الأمور في نصابها الصحيح.. وتحيا مصر.