السلام.. كلمة تشدو بها الألسنة على سبيل المثالية، فالنفس البشرية على فطرتها النقية تميل إلى السلم وتبغض المعارك والحروب، وهو ما يبدو ظاهريا، ولكن لكل إنسان طبيعته الدفينة التي لا يعلمها إلا الخالق عز وجل، وهذا ما ينطبق أيضا على الدول والعالم أجمع، حتى أصبح لدينا العديد من منظمات السلام الدولية، ولكنها بكل أسف ضجيج بلا طحين، فلا المعارك توقفت ولا الحروب تم وأدها إلى هذه اللحظة، ونحن جيل عاش يبكي من مشاهد الخراب الشامل التى خلفتها حروب أمريكا في العراق، وكذلك أفغانستان، وقبل هذا وذاك ولدنا على الحروب المتجددة بين الصهاينة والشعب الفلسطيني الأبي، وبعد أحداث ما سمي بالربيع العربي غدت مشاهد التخريب وإزهاق الأرواح تحاصرنا في كل لحظة، وكأنها مادة خصبة للقنوات الإخبارية، وسكريبت مناسب لبرامج التوك شو، وسيناريو غزير للأعمال الدرامية!
ولكن ماذا نعرف نحن عن السلام النفسي؟ حين نتحول إلى فريسة سهلة تلتهمها ظروفنا وأحوالنا، ويصير جلد الذات عادة يومية بلا هوادة، وهذا يتطلب منا الحصول على الراحة النفسية والهدوء وتحرير النفس من الفوضى الداخلية، ولكن كيف يمكن أن نتخلص من الأفكار السلبية الكامنة في اللاوعي؟ والأهم في واقع الأمر أن نتقبل ذواتنا بما لها وما عليها كما هي، فلسنا مخلوقات مثالية ولم نكن يوما معصومين من السقوط في أغوار الخطأ.
وقال أفلاطون: لا يمكن لأي مدينة أن تعيش بسلام، مهما تكن قوانينها، إن كان مواطنوها... لا يفعلون سوى الاستمتاع بالطعام والشراب والحب، ولكن هل من الخطأ العيش كذلك لفترة من الوقت مجرّد بضعة أشهر من حياة المرء، يسافر فيها عبر الزمن ولا يرجو منها سوى العثور على الوجبة الشهية التالية؟ أو تعلّم تحدّث لغة لمجرّد أنّها تطرب أذنيه؟ أو أخذ غفوة في حديقة، في بقعة مشمسة في منتصف النهار، بقرب نافورته المفضّلة؟
بينما يقول الفيلسوف الروماني ماركوس أوريليوس: إن من يعش في وئام مع نفسه يعش في وئام مع العالم”، في حقيقة الأمر لم يخطئ ماركوس أبدًا في تلك المقولة، ولكن ربما ينقصها جزء مهم وهو أنه من يعش في حالة سلام مع الله سوف يحيا بالتأكيد حالة سلام مع نفسه، ومن ثم الآخرين والعالم الخارجي.
ومن هنا وجب علينا اللجوء إلى الخالق عز وجل، ونحن على يقين بأنه المعين وهو خير المدبرين ونحن لا نجيد التدبير، ثم علينا أن نتعلم من أخطائنا ونتجاوزها دون إصدار حكم بالجلد الذاتي، ومن أفضل المقويات التى تحقق لنا ارتفاع منسوب السلام النفسي هي ثقافة الامتنان.. نعم، نمتن لنعم الله علينا، ونمتن لأنفسنا حين نحقق أهدافنا وننجز مهامنا، نمتن لمبادئنا وأخلاقنا، نمتن حتى للتجارب الفاشلة في حياتنا؛ لأننا حاولنا وسعينا وتعلمنا دروسا مستفادة.
خذ نفسا عميقا وهدئ من روعك، ثم تأمل في مواطن الجمال من حولك فالتأمل يفيد في الهدوء وانشراح الصدور وفتح أفق جديدة للأهداف المرجوة.
اشغل نفسك بحياتك ولا تغرقها في تفاصل الآخرين، ودع الخلق للخالق، سامح على قدر المستطاع، وتخلص من كل المنغصات التى ترهق روحك، فلو علمت أن أحد الطرق متكدسة بالزحام سوف تحول مسارك وتسلك طريقا آخر حتى وإن كانت المسافة أطول، وهكذا عليك أن تعرض عن من يزحم روحك وأفكارك دون مبرر، وهو ما يطلق عليها العلاقات السامة والمؤذية "التوكسيك"!
ولا تعبأ برأي الآخرين بشأنك بل قم أنت بتقييم ذاتك، واسع لتقويمها دون جلدها، طبطب على روحك بالطريقة التى تروق لك، وتذكر أنك لست حكما على أحد، ولست حكرا على أحد،
حاول أن تلقي بضغوطك النفسية في سلة المهملات قبل أن تخلد إلى النوم، فالنفس أغلى من أن نعبئها بهذا الكم المرعب من المنغصات التي لا تطيقها.
وتأكد أن السلام المنشود سوف يتحقق حين يتجلى سلامك الداخلي أولا..
وتذكر مقولة الكاتبة الأمريكية إليزابيث جيلبريت في روايتها الشهيرة "طعام.. صلاة.. حب" التي تحولت إلى فيلم عام 2010 بطولة نجمة هوليوود جوليا روبرتس وإخراج ريان مورفي، حين قالت: إن تكريسَ النّفسِ لإنتاج الجمال والاستمتاع به، من شأنه أن يكون عملًا جدّياً وهو ليس وسيلة للهرب من الواقع بالضرورة، بل يمثل أحيانًا وسيلة للتمسّك بما هو حقيقي في عالم ينهار فيه كل شيء.