كانت السيدة هدى حجازي تقود سيارتها كعادتها في جنوب لبنان ومعها بناتها الصغيرات وأمها؛ في السيارة بعض الألعاب وفاكهة وحلوى لتتناولها الصغيرات في الطريق، كان الجميع يشعرن بالسعادة وضحكاتهن تعلو والجدة تحتضنهن بحب؛ فجأة تصيبهن قذيفة صهيونية لتحترق السيارة بمن فيها وتنجو الأم وحدها وتنال بناتها وأمها الشهادة..
حدث ذلك للكثيرات والكثيرين في فلسطين منذ 1948 وفي لبنان منذ عام 1982..
نتوقف عند السيدة هدى حجازي وكلامها في مقابلة تليفزيونية أجريت لها وهي في المستشفى؛ كانت حروفها وملامح وجهها نابضة بالسكينة والتسليم والرضا بقضاء الله وقبل ذلك وبعده بقوة الإيمان وصدق "اليقين"، قالت هدى: صار لنا ضربة غادرة من عدو اعتدنا غدره، بناتي متعلقات بالأرض في الجنوب ويعشقن رائحته وكانوا متحملين قسوة القصف 12 يومًا، ومن أجلهن غادرت إلى بيروت لعدة أيام بعد إصرار الأهل خوفًا عليهن من التعرض للأذى رغم أنهن رفضهن المغادرة ورغبتهن بالبقاء ثم عدنا للجنوب وكن سعداء جدا بالعودة وأنجزن واجباتهن المدرسية بأسرع من المعتاد وسارعن بوضع أمتعتهن وألعابهن وعدنا للجنوب وحدث قصف شديد فشعرن بالخوف قليلا ثم قلت لهن: لماذا نخاف؟ ما الذي يمكن أن يحدث؟ سنذهب عند الله ومن يذهب إلى الله لا يخاف أنتن محجبات وتطعن الله وتحرصن على الصلاة والصوم وأخلاقكن "حلوة" فكن يحتضنني ويشعرن بالاطمئنات، ولا كأن هناك أي شيء يحدث حولنا.
أما أمي؛ فهي سيدة كبيرة فكانت تخاف أحيانًا وأقول لها: يا أمي لنبعد حب الدنيا عنا، فكانت تقول لي من أين تأتين بهذه القوة؟! كنت أرد: قوة الإيمان يجب أن تغمر قلوبنا، وكن يقوين جدتهن وتحتضنهن.
من شدة القصف كنا نشعر أحيانًا وكأن البيت سينطبق علينا ما أحد يصدق كم التعلق بالأرض.
كانت البنات وكأنهن يشعرن أنهن ذاهبات للشهادة، أعطيتهن حلوى وأنا أقود السيارة وليس معنا أحد سوى بناتي وأمي، وفجأة تعرضنا لقذيفة من طائرة كانوا يروا بوضوح أنه لا يوجد أي رجل معنا بالسيارة وتعمدوا قصفنا؛ كان الصوت مدويًا، ومنذ ذلك الوقت لا أسمع جيدًا؛ علقت تحت السيارة، قلت الشهادة عدة مرات كنت أظن أني أموت وربما كنت أقولها لبناتي، كانت النيران مشتعلة، ولم أر أمي ولا بناتي محترقات؛ كن دائمًا يحببن الاستماع مني لقصة سيدنا إبراهيم عليه السلام، كانت النار بردًا وسلامًا عليهن، كأن هناك من انتشلهن من تحت السيارة ما حسيت أنهن احترقن، بل وكأن أيدي طاهرة وملائكة انتشلتهن أخذتهن للسماء..
أقول لعدوي: أنت قتلتني بأرضي أنا سأقتلك بأرضي أيضًا؛ فلسطين أرضي أرض القدس والأقصى وأولى القبلتين، أنا مهما حصل لي فأنا ببيتي ووطني؛ أنت مهما كنت محصنًا بأقوى الملاجئ فأنت خائف لأنك تعرف نفسك أنك لص ومرتزقة وسفاك دماء، أتيت لتنام بمكان ليس لك، دائمًا سترى الرعب، أما نحن فدائمًا نطمئن أن الله يحمينا، ثم الشباب الذين يقومون بحمايتنا.
نحن أصحاب حق وأصحاب الحق لماذا يخافون؟ الإنسان عندما يخسر كرامته ما جدوى حياته؛ أستطيع العيش بلا أولادي ولكن بعزة؛ ولا أستطيع العيش بلا كرامة..
أنا معلمة تعليم ديني ولي تلاميذي، قد يكون لساني يقول أشياء أما الآن فقلبي هو الذي يتكلم وافتخر؛ فقد قدمت أغلى ما عندي لنصرة الحق؛ لم يكن عندي أغلى منهن، كنت عندما أشعر بالهموم أشكو لأمي أو لبناتي ويحملنها عني، وأعرف أنني عندما أتألم الآن يشعرن بي وأثق أننا سنلتقي يومًا ما.
أشعر بالسكينة؛ لأنهن رحلن قبل مني شهيدات، ولن أخاف عليهن بأي شيء يهدد إيمانهن أو يخصم منه؛ فالبعض يربي أولاده جيدًا ثم يصدم فيهن لسوء تصرفاتهم، أما أنا فيجب أن أكون مثلهن.
وضعنا كلمة "مستوطنين" بين قوسين لأنها كلمة خاطئة؛ فالصواب أنهم مغتصبون فهذه الأرض لها أصحابها، ولم تكن يومًا بلا سكان ليستوطنها أحد؛ بل تم الاستيلاء عليها بالعنف والاحتيال والقتل وتشريد أهلها وبقر بطون الحوامل للترويع والتآمر لسرقة الأرض وإلقاء أهلها في أرجاء العالم يبحثون عن المأوى بعد أن كانوا أصحاب أرض فلسطين من النهر للبحر..
"إن لم أسرق هذا البيت سيسرقه غيري" هذا ما قاله مغتصب بوقاحة متناهية، أو كما يقال "مستوطن" لسيدة فلسطينية صاحبة البيت الذي "اغتصبه" عنوة وواجهته وسجلت المواجهة بالصوت والصورة وأذاعتها على وسائل التواصل الاجتماعي، وهتفت بقوة صاحب الحق في وجهه بثبات وشجاعة قائلة بأنه يستولي على بيتها بلا أي حق..
بينما نرى ما يُطلق عليهم خطأ "المستوطنون" يتسابق بعضهم للهجرة خارج "إسرائيل"، ويندفع غيرهم لشراء أسلحة للهجوم على أصحاب الأرض، ويصرخ الباقون في حكومتهم مطالبين بالأمان الذي صاروا يفتقدونه وتضاعفت أعداد الباحثين عن الخدمات النفسية للعلاج من الاضطرابات المتزايدة.
نجد بعض "أطفال" فلسطين يغنون أثناء انتظارهم وجبة طعام، وهم يبتسمون ويرفعون علامة النصر ووجوههم تبنض بالأمل واليقين بالنصر، وينشدون يا أهل فلسطين شدوا بعضكم في تكاتف غير مسبوق في أي مكان بالعالم.