وسقطت المتاريس والحصون!

18-11-2023 | 10:08

إنهم يعلمون كيف يحمون ما سرقوه من أراضٍ وحقول، فصنعوا جدراناً عازلة وارتقوا بالأسوار المكهربة، وظنوا أنهم بمأمن حتى جاء يوم السابع من أكتوبر فتغيرت قناعاتهم وانتهت للأبد!

 ولأنهم متخصصون فى الدراسات والأبحاث النفسية وطرق التلاعب بالعقول، أقاموا جدراناً نفسية وهمية أنهم الأقوى وألا سبيل لهزيمتهم، حتى رأينا كل تحصيناتهم تتهدم وتتفتت كأنها بيوت العنكبوت! وكل هذا حدث فقط فى 40 يوماً!!

ما بعد الأربعين

إنها الهدنة يسعى إليها المهزوم سعياً.. فمن الذي انتصر حقاً؟  

الآن وبعد تكدس الآليات المعطوبة بفعل راجمات المقاومة، وبعد النزيف المؤلم للجيش العرمرم على أرض غزة، وبعد اقتناعهم باستحالة التوصل إلى مكان الأسرى أو حتى تحرير أسير واحد منهم، وبصعوبة العثور على نفق واحد من مئات الأنفاق فىشبكة غزة، الخارقة للتحصينات، باتت الهدنة أقصى أمانيهم!

سياسياً هناك انشقاق داخل دوائر الحكم والقيادة في إسرائيل، وضغوط كبيرة مؤداها أن حكومة نتنياهو تلفظ أنفاسها الأخيرة.

وعلى الجانب الآخر من الشاطئ تنحسر شعبية جو بايدن وحزبه الديمقراطي إلى الذيل، وحزب المحافظين البريطانى تحت ضغوط شعبية ومليونيات ثورية تنادي بوقف الحرب، والتوقف عن دعم الكيان الإسرائيلي المحتل صاحب المجازر النازية غير المسبوقة.

 

وعسكرياً لا يوجد تقدم على أي محور من محاور الاقتحام البري، بل يبدو المشهد وكأنه كادر سينمائي ثابت متجمد على بيت حانون وبيت لاهيا ومخيم الشاطئ وما حول مستشفى الشفاء.

والحديث يجري عن معارك سجال بين طرفين قويين، لا عن اقتحام وفرض سيطرة ونشر قوات الجيش الأقوى والأكثر عتاداً!

الآن وبعد أربعين يوماً على القصف الغاشم على غزة، لم يعد ثمة حلول إلا هدنة قصيرة من أجل تحرير بعض الأسرى، وكلها تتم بشروط تمليها المقاومة المنتصرة!

 

عجائب المتعاطفين مع غزة

لعل أهم مكاسب ما حدث فى فلسطين المحتلة التعاطف العالمي المذهل مع غزة، وتتلاشى فاعلية ومصداقية الإعلام الصهيوأمريكي.

المتابع لمظاهرات نيويورك ولندن سيجد في صفوفها الأولى عائلات يهودية متعاطفة مع القضية الفلسطينية! وشباب بأوشام وتقاليع غربية، وعروض رقص يؤديها رجال بأزياء الهنود الحمر، يتذكرون مأساتهم ويربطونها بمأساة غزة وفلسطين!

أغلب المتعاطفين مع غزة حول العالم ليسوا عرباً ولا مسلمين! وإنما هم خليط من كافة التيارات والأحزاب والعقائد والأجناس.

إنه تعاطف إنساني خالص تجاه صمود يبدو كصمود الجبال الرواسي لأهل غزة، وطغيان إسرائيلي يعيد للأذهان محارق الهولوكوست النازية، وقبضة الدكتاتوريات الفاشية، ومجازر المغول والتتار!

 

المشهد الأعجب يحدث بيننا! عندما تلاحظ حولك أناسًا تغربلهم المحنة، فينفضوا عن قلوبهم وعقولهم وأكتافهم كل ماضيهم الذي تعاطفوا خلاله مع الماركسية حيناً ومع الليبرالية حيناً ومع العلمانية بعض الوقت، ثم يكتشفون أنهم لا يملكون إلا التعاطف مع المقاومة الفلسطينية، حتى وإن كانت تتعارض مع معتقداتهم وأفكارهم ومزاجهم السياسي والنفسي!

 

الحق أن ما يحدث فى فلسطين المحتلة اليوم يعيد هيكلة العقل الجمعي لا أقول في منطقتنا بل في العالم كله.

وسوف نرى في المستقبل من التداعيات والنتائج ما يثير الحيرة والعجب والاندهاش أكثر وأكثر.

 

زمن سقوط الأقنعة

بعد معركة طوفان الأقصى لم يعد التخفي خلف شعارات المداهنة والنفاق ممكناً..

بات من السهل تمييز الوجوه كلها بوضوح، وجه الإمبريالية الاستعمارية المتدثر بعباءة الليبرالية وحماية الحريات، ووجه الشيوعية الأحمر الدامي الرابض خلف قناع النضال الكاذب والدعوة الزائفة لحفظ حقوق الفقراء والضعفاء والعمال والفلاحين.

وهؤلاء وأولئك خرسوا تماماً أمام مجازر جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة، بل إن بعضهم بات لساناً للظلم ضد المظلومين!

هل تعلم أن المعضلة الأكبر أمام الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل الآن في تفاوضهما مع المقاومة الفلسطينية هي غياب الوسيط بين الجناح العسكري الغزاوي وبين المفاوض الإسرائيلي؟!

والسبب أن المقاومة لم تعد تثق فى أحد خارج نطاق المعارك على الأرض، وبات التواصل الوحيد من خلال المتحدث العسكري للمقاومة الفلسطينية، الذي أصبح يلعب دور السياسي والإعلامي، بالإضافة لدوره العسكري!

كأن كثرة الأقنعة وتداعيها من حول أفراد المقاومة، دفعهم ألا يثقوا إلا فى أنفسهم، الأمر الذي يفسر سرية عملية طوفان الأقصى منذ بدايتها؛ كأن العارفين بساعة الصفر كانوا أقل من أصابع اليد الواحدة!

وثيقة كامبل السرية!

 

عام 1905 عُقد مؤتمر كامبل بنرمان في العاصمة البريطانية لندن، إنه مؤتمر دعا إليه حزب المحافظين البريطاني سراً، واستمرت مناقشات المؤتمر حتى عام ١٩٠٧، وضم المؤتمر جميع الدول الاستعمارية في ذاك الوقت وهي: بريطانيا، فرنسا، هولندا، بلجيكا، اسبانيا، إيطاليا، وفي نهاية المؤتمر خرجوا بوثيقة سرية دعوها "وثيقة كامبل" نسبة إلى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك هنري كامبل بانرمان.

انتهى المؤتمر الحاشد إلى قرار خطير مفاده: اعتبار البحر الأبيض المتوسط هو الشريان الحيوي للاستعمار والجسر الذي يصل الشرق بالغرب والممر الطبيعي إلى القارتين الآسيوية والإفريقية وملتقى طرق العالم.. وأن العقبة الكبيرة للسيطرة عليه، هي الوحدة الدينية والتاريخية واللغوية للشعوب المطلة على جنوب وشرق البحر..

وعليه فإن قادة المؤتمر قرروا الآتى: أولاً: إبقاء شعوب تلك المنطقة مفككة جاهلة متأخرة اقتصادياً وتنموياً.

ثانياً: منع أي اتحاد بين أجزاء المنطقة المقسمة بفعل الاستعمار ثم باتفاقية سايكس بيكو الشهيرة.

ولضمان تحقيق ذلك تم التخطيط لإقامة دولة إسرائيل كشوكة مغروسة فى حلق المنطقة تعيق توحدها وتغرقها فى مشكلات مزمنة.

ثالثاً: تفكيك نسيج الدول المستهدفة من داخلها من خلال دعم الأقليات وإثارة نعرات التفرق والانقسام بكل أشكاله العقائدية والعرقية والقبلية؛ بحيث لا يستقيم النسيج الاجتماعي لهذه الدول إلا من خلال تدخلات خارجية ورعاية أممية!

إنها وثيقة تمثل نهج الدول الغربية ما بعد خروجها الظاهري وانسحاب جيوشها من المنطقة، لضمان استمرار سيطرتها ونهضتها على حساب تراجع منطقة الشرق الأوسط حضارياً وسياسياً وعسكرياً واقتصادياً ليظل العرب طوال الوقت معتمدين متكئين على الغرب موالين له كل الموالاة!

مستقبل المحمية الأمريكية!

لم يعد أحد يجهل حقيقة أن إسرائيل هي الطفل المدلل لأمريكا، وأنها محميتها فى الشرق الأوسط.. كيف لا، وهذه السفن الحربية وحاملات الطائرات وأطنان الذخيرة والسلاح تطير من أمريكا إلى إسرائيل عبر جسر جوي دائم لتحيط إسرائيل المحتلة إحاطة السوار بالمعصم؟!

خطوات ليست وليدة اللحظة، بل هي دعم قديم ودائم وشامل لكل عناصر القوة من سلاح وعتاد وأموال وتقنيات بل وجنود مرتزقة من أوروبا والغرب!

ومنذ كتابات هنري كيسنجر التي دعت إلى منع أي انتصار عربي، إلى قرارات دعم الكيان بأقوى طيران وأقوى ترسانة قنابل وذخيرة في المنطقة، وحتى معركة اليوم التي جمعت أساطيل أوروبا وأمريكا وأحلاف الغرب، نستطيع أن نفهم أن الصراع يدور حول المصالح الغربية فى المنطقة، بقناع أيديولوجي عقائدي!

ونظرة سريعة لنتائج المعركة على الأرض يستطيع أن يصل إلى يقين تام أن المصالح الغربية في المنطقة لن تتحقق، وأن المحمية الأمريكية الشرق أوسطية المسماة إسرائيل، سوف ينكشف عنها غطاء الدعم الغربي، وأنها ستكتسب مزيداً من الكره والاحتقار من جانب الرأى العام العالمى، وأن الانقسامات الداخلية الحادثة فى النسيج الاجتماعي الإسرائيلي، كعقاب عادل لمؤامرات مؤتمر كامبل وأشباهه، تنذر بتحقق ما اصطلح على تسميته "لعنة العقد الثامن".

ولن تمر سنوات قليلة إلا وتتحول المحمية المحاطة بسياج ضخم من الجدران والحصون ووسائل الحماية، إلى مقصد لكل فلسطيني ترك أرضه قسراً وصدره ينطوى على حلم العودة الذي لم ولن يزول.

                     [email protected]

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة