تختلف الحالة الوجدانية عند الجلوس أمام القبور ليس فقط من شخص لآخر، ولكن أيضًا من وقت لآخر. فى البداية يكون بكاء الفراق هو سيد الموقف، نتذكرهم فنفتقدهم وبالتأكيد نقلق على مصيرهم وندعو الله ونرجوه أن يشملهم برحمته ومغفرته. لكننى مع تكرار الزيارة لاحظت أن تلك الحالة الوجدانية تتغير، نبكى دقائق معدودة ثم نهدأ وننظر إلى ذلك الجدار ونتخيل ما وراءه فنتذكر مصيرنا المحتوم القادم لا محالة، ونبكى هذه المرة بمنتهى المرارة والحرقة على حالنا، فماذا أعددنا لهذا اللقاء؟ ماذا نفعل إن تحدد اللقاء غدًا أو بعد غد أو ربما اليوم، ماذا أعددنا؟
بعد ذلك ومع اعتياد التواجد أمام الجدار، بعد أن تهدأ العاصفة وتكتفى الأعين بما ذرفت من دموع، تسيطر على الموقف حالة وجدانية مختلفة تمامًا، حالة تطرح تساؤلات مختلفة تأخذك أخذًا إلى طريق آخر، لتنظر وتتأمل وتتساءل أين ذهب من كان بيننا منذ ساعات قليلة، لقد اختفى خلف هذا الجدار دون استئذان أو سابق إنذار، كيف حاله الآن؟ هل يشعر بنا؟ هل يرانا؟ هل بالفعل نحن الأحق بالقلق عليه أم أنه ينظر إلينا الآن بمنتهى الشفقة والحزن والألم لما نعانيه فى حياتنا؟ هل هو شقى فى قبره أم سعيد وقد نال مغفرة من الله سبحانه وتعالى؟ ربما كان له فعل يشفع له فينجو، لم لا، ربما هو المرتاح الآن الذى ينظر إلينا ويبتسم راجيًا لنا نفس منزلته عند ربه.. ربما ونحن ننظر ونتمنى لو كان ما زال بيننا حيًا يرزق، ينظر هو من خلف الجدار مبتسمًا مادًا يديه يتمنى أن يأخذنا عنده.. ربما.
كلما ذهبت وجلست أمام هذا الجدار دارت فى عقلى مئات الأسئلة، هنا يرقد أخى وضعته بيدى منذ قليل، وخلفه ترقد أمى منذ سنوات، وفى الجوار أبى، كدت أشعر بوجودهما وأنا أدفنه إلى جوارهما، أحسست بسعادتهما وهما يستقبلان صغيرهما ويحتضناه بين ذراعيهما، بالطبع هم يفتقدونه فقد رحلوا منذ وقت طويل. لا شك فى سعادتهما بهذا اللقاء إن كان هناك لقاء للأرواح فى تلك الحياة البرزخية، ولا شك فى سعادته هو أيضًا، أما نحن فنجلس فى الخارج لا يفصلنا عنهم سوى هذا الجدار، نجلس لنبكى حرقة الفراق، ولا نشعر بتلك الابتسامة الرائعة التى يطلقونها على الجانب الآخر وهم ينظرون إلينا بتعجب، يتعجبون لبكائنا، وربما لغبائنا وظننا أن ما عندنا أفضل، فى حين أن ما عند الله أفضل بكل تأكيد.
ما وراء الجدار غامض ومجهول لا نعلم عنه إلا أقل القليل، بالطبع نعلم أن المحسن سوف ينال جزاء إحسانه والمسيء سوف يعاقب، لكن حسن ظننا بالله سبحانه وتعالى يجعلنا نرجو رحمته التى وسعت كل شيء. من نراه فى الدنيا محسنًا قد يكون له أخطاء لا تغتفر، ومن نراه مسيئًا قد يكون له فعل واحد يرضى الله فيعفو عنه. لا يجب أن ننصب أنفسنا حكامًا نقرر من فى الجنة ومن فى النار، هو أمر لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى الذى نرجو رحمته وإحسانه لهؤلاء الذين يرقدون خلف الجدار ولأنفسنا نحن الذين ما زلنا نجلس أمامه ننتظر دورنا للحاق بهم.
ترى إن تحدثوا إلينا من خلف الجدار فماذا يقولون، ما رسالتهم لنا؟ ربما يخبروننا أننا حمقى إلى أقصى حد وضعفاء إلى أقصى قدر، ضعف يغلفه غرور أحمق وذاكرة لاهية تتناسى دوما مصيرها المحتوم. ربما.. ربما يصرخون فى وجوهنا راجين أن ننتبه إلى المئات من علامات الإنذار المبكر التى تحيط بنا من كل جانب لتنبهنا إلى ضرورة الاستعداد لهذا اللقاء المحتوم، ونحن لا نلتفت إليها، نتجاهلها ونحن الأحوج إليها، نعبس لها وهى المنجية لنا، ألم أقل أننا حمقى.
شواهد الأزمة واضحة كل الوضوح فى تلك الحياة الماكرة التى تقوم بمهمتها على أكمل وجه، تشتت انتباهنا مرة بالمال ومرة بالسلطة ومرة بالبنين، ورغم كل التحذيرات الإلهية الواضحة وضوح الشمس فى كبد السماء ما زلنا حمقى.. كيف يمكن تفسير تلك الحماقة شديدة الحمق؟ لماذا لا تتصور أنك سوف تموت فى يوم من الأيام، من أنبأك أنك من المخلدين أيها الأحمق؟ ألا تنظر حولك؟ الكل فانٍ وزائل، وما زلت فى عنادك وتجبرك، لا تغضب إذن عندما ندعوك بالأحمق.
ألا ترى أين أنت الآن؟ ها أنت تجلس هنا بجوار الجدار، انظر وتذكر من كانوا بالأمس حولك يصولون ويجولون هنا وهناك، أين هم الآن؟ أليس هذا دليلًا على غبائك؟ حسنًا فلتستمر فى غيبوبتك لكن استعد فقد امتلأ دفترك وتناثر منه الغباء فى كل مكان ولن يحمله عنك أحد، هو لك بكل ما فيه، احمله إن استطعت.