إن أردت توصيفًا دقيقًا معبرًا عن الحالة الراهنة للعلاقات المتوترة بين الولايات المتحدة والصين فسيكون ما يلى، شكوك متبادلة، وشعور بالظلم، وانطباعات مشوشة حول ما يسعى إليه الطرف الآخر، فالتوجس سيد الموقف بين القوتين الكبيرتين اللتين تحول تنافسهما إلى صراع مرير ومحفوف بالمخاطر على النفوذ والسيطرة على الرقعة الدولية مترامية الأطراف.
لكن تظل القاعدة الراسخة التي لا تتغير على مر العصور والأزمنة، هى أنه لا خصومة دائمة ولا وفاق دائم في علاقات الدول، وأن البوصلة الموجهة لها ما يجمعها من مصالح مشتركة تفرض عليها فرضًا مراعاتها، مهما كانت درجة ونطاق الخلافات المزمنة بين المتصارعين من القوى الكبرى والصغرى.
وتأتي القمة المنتظر عقدها بين الرئيس الأمريكي "جو بايدن" – 80 عامًا-، ونظيره الصيني "شي جينبينغ" – 70 عامًا - في ولاية كاليفورنيا الأمريكية بالخامس عشر من الشهر الجاري كدليل عملي يؤكد رسوخ وثبات القاعدة السالف ذكرها، فالزعيمان سيدخلان قمتهما وفى ذهنهما عدة أهداف إستراتيجية تخدم مصالحهما المشتركة، فهما قلقان من التداعيات الوخيمة للتوترات الناشبة عالميًا، وما يصاحبها من عدم استقرار، وتقلبات اقتصادية ومالية حادة، وختامها ما يشهده الشرق الأوسط من مجازر ومآسٍ إنسانية مروعة ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلية في قطاع غزة متجردة من الاعتبارات الإنسانية والقيم الأخلاقية القويمة.
والطرفان يخشيان من اتساع الحرب الدائرة في غزة والتحاق أطراف إقليمية بها، وفي مقدمتها إيران، وتسعى أمريكا بشكل أساسي خلال قمة كاليفورنيا للحصول على وعد من الضيف الصيني بممارسة ضغوط على طهران، لكي توقف الفصائل والجماعات الموالية لها فى لبنان والعراق واليمن ضرباتها وحربها بالوكالة ضد إسرائيل.
فواشنطن تعرف أن هناك تقاربًا كبيرًا وتفاهمًا بين بكين وطهران يسمح للأولى بنيل تعهد صريح من الحكومة الإيرانية بتطويق مساحات معركة غزة غير المتكافئة، ومعروف أن ورقة إيران من بين كروت يستغلها التنين الصيني لمضايقة وإزعاج أمريكا في سياق مشاحناتهما المتواصلة، وسعيها الدؤوب لتقويض السياسات الأمريكية في أرجاء العالم، فما هى فرصة تجاوب "جينبينغ" للطلب الأمريكى؟
نظريًا فإن من مصلحة الصين حدوث مزيد من التورط الأمريكي في مستنقع الشرق الأوسط بمياهه الآسنة، ومشاهدة العم سام يحترق بنارها المتأججة، لأن ذلك يعزز وجهة نظرها بأن واشنطن تتحمل المسئولية الكاملة عن الاضطراب والفوضى اللذين يعمان الكرة الأرضية، بسبب سياساتها وتقديراتها وانحيازاتها الخاطئة، وأن النظام الدولي الذي بنته بعد الحرب الباردة غير صالح للاستمرارية ويجب استبداله في التو واللحظة بآخر تضع قواعده وضوابطه الصين وحلفاؤها، فضلا عن أنه سيتم استنزاف أمريكا اقتصاديًا وماليًا، بما يقود لإضعاف قوتها فى معاركها المقبلة مع التنين الصينى الذى سيكون له الكفة الراجحة عليه.
أما عمليًا فإن الأمر جد مختلف، إذ إن الاقتصاد الصينى – ثاني أكبر اقتصادات العالم - يعاني من متاعب وصعوبات متكاثرة، ويلزمه الانتعاش فى القريب العاجل، وهو غرض لن يتحقق بمعزل عن الولايات المتحدة ومحورها، بحكم أن واشنطن من أكبر الشركاء التجاريين لبكين - التبادل التجارى بين البلدين بلغ 519 مليار دولار في 2023 - وتعرض سلاسل الإمدادات العالمية لمشكلات أكثر سيؤذى اقتصادها العليل، وبدون شك فإنها لا تطمح لهذا السيناريو الكئيب والقاتم.
كذلك فإنها ترغب فى الاستفادة من الزخم التابع لتحسن الأجواء والاتصالات بين الجانبين، وتبادل زيارات كبار مسئولي البلدين في الأشهر الأخيرة، لكسر الجمود الناتج عن إسقاط أمريكا منطادًا صينيًا للتجسس حلق في أجوائها حسبما أعلنت قبل ما يزيد على عام، وعلى الجهة الأخرى فإن صناع القرار بالعاصمة الأمريكية يوقنون بأن الصين حقيقة واقعة لا يجوز إنكارها، أو التقليل من دورها الرئيس على المسرح الدولي، وهو ما تدركه أيضا بكين التي تعلن في خطاباتها الرسمية أنها تريد منافسة وليس صراعًا مع أمريكا، التي تراها كأخطر تحد إستراتيجي طويل الأمد لها وللنظام العالمي برمته.
بالعودة لما يتوقع أن يقرره "جينبينغ" ردًا على المسعى الأمريكي بخصوص إيران فباستطاعتنا القول إنه سيكون مرهونًا بوزن الصفقة المرتقب التوصل إليها مع "بايدن" فيما يخص مسارات علاقتهما الثنائية، ودعم تايوان عسكريًا والتي تعتبرها بكين مقاطعة متمردة على الوطن الأم وتطالب باستعادتها اليوم قبل الغد، والنقطة الثالثة تتعلق بالتحركات الأمريكية المكثفة والمريبة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ التي تنظر إليها الصين كفناء خلفي لنفوذها وترفض فرض الوصاية والهيمنة الأمريكية عليها، ومحاولاتها لبناء تحالفات مناهضة لها فيها.
إذن فإن المصالح المشتركة ستكون العنوان العريض والأوقع للقمة بين الصقر الأمريكي والتنين الصيني، فكلاهما يسعى لأشياء بعينها دون أن يتخلى عن حذره تجاه الآخر، أو يعطيه صكًا بالأمان، لأنهما يتنافسان على المركز الأول، ولابد ألا تخدعنا الابتسامات والمصافحات التي سنراها أمام الكاميرات بين "بايدن" و"جينبينغ" فهما لم يغيرا مواقفهما وإستراتيجياتهما، لكن الضرورات توجب التقاءهما وتعاونهما مرحليًا.