صمود غزة.. وإعادة حسابات المنطقة

6-11-2023 | 21:41

صحيح أن هناك انقلابا في المشهد الإقليمي قد حدث بعد عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حركة حماس صبيحة السابع من أكتوبر الماضي، تلك العملية التي تسببت في صدمة اجتماعية وسياسية وقبلهما عسكرية للكيان الصهيوني المحتل، وقد صار تركيز العالم كله تقريبا على هذه الحرب الدائرة الآن في غزة، وبمعنى آخر في بقعة صغيرة من العالم، حتى صار المشهد الذي تملئه المجازر اليومية المرتكبة من قبل جيش الاحتلال في حق أبناء غزة هو مجموعة من الدوائر تحيط بمركز الدائرة المعتم جراء القصف المتوالي والفقد المتوالي، الذي جعل من الصورة الجماعية للعائلات منظرا طبيعيا لأكفان متجاورة، فهناك الدائرة القريبة التي يمثلها جيش الاحتلال بآلياته وقذائفه وصواريخه، وعشرات الأطنان من المتفجرات تجاه المنازل التي مُحيت والمدارس والمستشفيات، ودائرة المجتمع الدولي الرسمي الذي انكشف وجهه القبيح أمام دائرة أكبر محيطة بالجميع في أنحاء الأرض وهي شعوب العالم الذين ينظمون وقفات احتجاجية وتظاهرات حاشدة يؤيدون فيها الفلسطينيين وحقوقهم في وطنهم وينددون بوحشية الكيان المحتل، إذ تشهد عواصم الدول حتى التي يؤيد نظامها ما يسمونه حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها،  من لندن وبرلين وباريس وواشنطن، وبروكسل وبرشلونة وكوبنهاجن  وأمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، وكذلك في أنقرة وإسطنبول وطهران، وفي عواصم الدول العربية،  للمطالبة بوقف إطلاق النار في غزة، فضلا عن اتخاذ عدد من الدول إجراءات رسمية عبرت بها عن رفضها القاطع لما يحدث بقطاع غزة من انتهاك وإبادة جماعية، ومنها دول لاتينية حيث قطعت بوليفيا علاقتها بالكيان المحتل، واستدعت كلا من كولومبيا وتشيلى سفيريهما مما تسمى بإسرائيل.

غير أن الكيان رغم كل ذلك مستمر في إجرامه، وشعوب العالم والشعوب الإسلامية والعربية التي باتت على استعداد تام وصادق للذود عن أبناء غزة في هذه الحرب الوحشية ضدهم، وأطلقت رغبات عبر مواقع التواصل في البحث عن وسائل  للدخول بمجرد أجسادهم لصد ودرء هذا العدوان المدعوم من الغرب، ويتساءلون: ماذا بعد اللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات والاتصالات، ولقاء مبعوثين من الشرق الأوسط مع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، الذي قال إن وقف إطلاق النار الآن سيسمح ببساطة لحماس بإعادة تجميع صفوفها وتكرار ما فعلته في 7 أكتوبر". فما معنى ذلك، وماذا بعد الحث على ضرورة التنسيق لوقف المجازر التي لم ولن تتوقف فيما يبدو؛ حيث إن الإدانة المتكررة تذكر بنكتة قديمة لراع هاجمه ذئب والتهم أمامه الشياه التي يرعاها، ولما سُئل: ماذا فعلت، أجاب قلت له انت قاس انت وحش وأنا أخاصمك. لتتساءل تلك الشعوب: ما دور ما يسمى باتفاقية الدفاع العربي المشترك؟ يريدون فقط فهم هذا الدور ومتى يحين؟

نعم ربما تختلف حسابات الشعوب التي لها كل الحق في طرح الأسئلة وانتظار الإجابات، ونعم فشل الكيان المحتل في توريط دول المنطقة وشيطنتها في حرب تعيد إليه توازنا فقده بعد أن تورط في جرائم حرب لا يستطيع استكمالها بريا أو الانسحاب منها آمنا، حتى فقد - بحسب اعترافه - 345 قتيلا من الضباط والجنود، وفيهم ضباط كبار وقادة كتائب وقد يكون العدد ضعف هذا الرقم، حتى جُن جنونه ولم بعد مدركا خطواته أو ماذا يريد، فاستمر في عدوانه الغاشم والوحشية المدعومة بغطاء أمريكي وغربي، ليدخل في حالة تأتي قبل السقوط المروع من قمة الغطرسة إلى قاع المذلة، وليس أدل على ذلك من مشهد البكاء الهستيرى في الكنيست، بعد مشاهدة مقاطع مصورة لما حدث لجيش الكيان على أيدى مقاتلين بأسلحة متواضعة، فكان نتيجة هذا الإذلال قرار الانتقام لكن كان هدفهم قصف المدنيين،  فيما أسماه نتنياهو بحرب الاستقلال الثانية، والتي أسفرت عما يزيد على عشرة آلاف شهيد فلسطيني منذ اندلاع هذه الحرب منهم أربعة آلاف من الأطفال، غير أن الأمر مختلف هذه المرة، ولم يعد هناك مخرج للكيان من مأزقه سوى جر  امريكا إلى المستنقع، فإما النجاة معا أو الغرق معا،  لكن يبدو أنه الغرق على الأقل في إعادة ترتيب الأمور؛ حيث صارت إدارة بايدن خائفة من الانزلاق إلى حرب، لا تعرف كيف ومتى ستنتهى، لتبقى بعض البصمات المهمة التي يمكن التعويل عليها سواء في إعادة ترتيب العلاقة بين دول المنطقة والولايات المتحدة التي تمثل رأس الشيطان الذي تحرك جسده المشتعل في الشرق، كما يُلاحظ تقليص جزء من الفجوة بين السنة والشيعة في المنطقة، كما بدا في خطاب نصرالله الذي أشاد بدور حماس في عملية طوفان الأقصى، مع تحرك مقاتلي حزب الله في الجنوب اللبناني وتكبيد العدو المحتل خسائر لم يكن يتوقعها،  لتكون هناك نظرة مغايرة للصراع القديم الذي غذته أمريكا عقودا طويلة وأزكت ناره ليبقى الشرق العربي والإسلامي على صفيح ساخن وتصارع مستمر، كما أن القضية الفلسطينية التي عانت طويلاً من إهمال دولي اصبحت الآن تحتل موقعا متقدماً في الأجندة الدولية، وأصبحت هناك حاجة ملحة لإيجاد مسارات سياسية مختلفة عما سبق، خصوصا بعدما تكشف وهن وضعف الكيان المحتل، وفي ظل حالة الإنهاك التي تعانيها أمريكا في عدد من الجبهات مع روسيا والصين وإيران، واكتشاف الغرب رهانه الخاسر في دعم أوكرانيا في حربها مع روسيا.

وقد بدأ هذا المشهد في التغير فعليا منذ الضربة المؤلمة التي تلقاها الكيان في السابع من أكتوبر وأربكت جميع حساباته، ووجود مناخ غاضب يعم المجتمع الإسرائيلي لشعوره بفقد الإحساس بالأمان وانهيار أسطورة الردع في ساعة واحدة، وليفهم هذا المجتمع البائس الذي جيء به إلى الأراضي الفلسطينية من هنا وهناك، أن الاستقرار يحتاج إلى تسوية سياسية متوازنة مع الفلسطينيين أصحاب الحقوق الأصلية، وأن الفكرة التي يجب أن تطرح بعد التخلص من نتنياهو وحكومته المتطرفة وقد انتهى للأبد مستقبله السياسي أن الأرض مقابل السلام، ولا مفر أو حقائق أخرى أمام حل الدولتين، كما لابد أن يكون هناك تحرك جدي لمحاكمة نتنياهو كمجرم حرب، والدفع نحو انقلاب سياسي في الداخل الإسرائيلي، بعد أن حركت هذه الحرب المياه الراكدة لتدفع بالأمور في اتجاهات أخرى.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة