لقد علمتني تجارب الحياة أن الناس تغيظهم المزايا التي تنفرد بها، ولا تغيظهم النقائص التي تعيبنا، وأنهم يكرهون منك ما يصغرهم لا ما يصغرك، وقد يرضيهم النقص الذي فيك: لأنه يكبرهم في رأي أنفسهم، ولكنهم يسخطون على مزاياك... عباس محمود العقاد.
والغوص في النفس البشرية مهلكة للغاية، فلو بدأت بنفسك لأنهيت عمرك في رحلة البحث دون الوصول إلى النتيجة المرجوة، فلا أحد منا يمكنه أن يعرف نفسه على حقيقتها بدليل أننا نتغير من وقت لآخر، تتبدل أمزجتنا، تتجدد أولوياتنا، ما أحببنا في الماضي قد لا يروق لنا الآن والعكس صحيح، ولكن ما يمكننا أن نعرفه هو حدود النفس وليس فحواها، ولأن المحيط الاجتماعي محدود كنا نلجأ قديمًا للقراءة بشغف حتى يمكننا الاضطلاع على عوالم أخرى وحيوات جديدة لم نعشها ونترك العنان لخيالنا، أما الآن فقد حلت مواقع السوشيال ميديا محل القراءة، بعد أن تحولت خصوصية الشخص إلى مشاع للجميع، بل ويقدم بعض الناس حياتهم بالتفصيل ماذا يأكلون وأين يسافرون، وأماكن خروجهم وأنواع سياراتهم وهلم جرَّا، ومن هنا تحولت هذه المواقع إلى مصباح سحري ينقلك إلى مزيد من الحيوات والأماكن وأنت في مكانك!
وهذا لم ينل من القراءة فقط، ولكن قام بتجفيف مشاعر الناس، وفرض عليهم العزلة الإجبارية وسط الصخب، فتحت أبواب التعارف والتلاطف على مصراعيها وكأنها ضجيج بلا طحين، حتى أن خسر البعض صداقات العمر مقابل صداقات افتراضية لا قيمة لها.
تحول الاستسهال إلى أسلوب حياة في شتى المناحي، ولم يعد لدى البعض اليسير قدرة على الغوص في تفاصيل الآخر وحياته، وما يؤسفني أن التقيت مصادفة ببعض المعارف، وحين سألتهم عن أصدقاء الطفولة وأصحاب العمر كان الرد: أنهم ذهبوا مع الريح؟ ولن أخفيكم سرًا فقد تأذيت نفسيًا فلم أكن أتوقع هذا المصير لأصدقاء عمر تجاوز الـ 20 عامًا على الحلوة والمرة، وتكاثرت منشورات المستخدمين على مواقع التواصل بشأن الغدر والخيانة وعشرة العمر المهدرة، وانقراض الصديق في هذا الزمن المعاصر!
ولهذا كان لزامًا علينا غربلة حياتنا من مرحلة لأخرى، حتى يمكننا استبعاد الشوائب بسهولة والإبقاء على الأشياء ذات القيمة والأصدقاء ذي القيم حتى ولو صديقًا واحدًا.
قد نتفهم انفصال زوجين بعد عدة سنوات طويلة ونلتمس العديد من الأعذار، لأن الحياة المشتركة أصدرت عليهما حكمًا بالأشغال الشاقة لصالح الأبناء، ولكن لماذا ينفصل الأصحاب؟ وكيف ننخدع في صديق بعد كل هذه العشرة؟ وإذا كانت الخيانة الزوجة تحركها الشهوات غير المقننة والاحتياجات غير المبررة، فخيانة الصداقة لا تفسير لها على الإطلاق.
فصديقك من صدقك، في الحديث معك وصدقك في مشاعرك وصدقك في غيبتك وغيابك فلا أحد يمكنه أن يتحدث عنك بالسوء أمامه.
ولهذا عليك أن تسقط البعض من غربالك، أولهم الذي لم يرد غيبتك؛ بل وعاب مع من عابوا، ومن يبيع عشرتك لأتفه الأسباب، ومن يتصيد لك الأخطاء، من تركك وقت وجعك ولم يعمل لمشاعرك أي حساب.
واحذروا كل الحذر من صديق يصنع لك المعروف، ويقدم لك كل ما لذ وطاب من العطاء ولكن بفواتير مؤجلة الدفع، وعليك ردها بالفوائد وكأنه ربا، وهذا لا يعني أن العطاء ليس تبادليًا بين أطراف أية علاقة إنسانية، ولكن لكل منا قدرته الخاصة وثروته المحددة من المشاعر وسبل التعبير عنها، فلا تحاسب شخصًا على ما لا يملك لمجرد أنك تملك ما لا يملكه.
ولا تحولوا المحبة والعطاء والود إلى عبء على كاهل الآخر، قدم لغيرك ما تحب أن تقدمه وما يمكنك تقديمه، ولا تنتظر المقابل، فقد تتلخص سعادتك في هذا المنح عن طيب خاطر، خاصة في حين لم يسألك الشخص، أما وإن سألك صديقك وطلب منك المساعدة في موقف محدد، فلابد من تقديم المساعدة مهما كلفتك، وتذكر أنه يوم لك ويوم عليك، والأيام دواليك، فجميعنا يحتاج إلى العون والدعم بأشكال مختلفة، ما بين الحسي والمعنوي والمادي والفكري وخلافه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وشَبَّكَ أصَابِعَهُ" رواه البخاري.