فى بدايات الحرب العالمية الثانية استطاعت الطائرات الألمانية الوصول إلى العاصمة البريطانية لندن وظلت تدكها على مدى 57 يوماً كاملة، ووصل حجم الدمار إلى حدٍ هائلٍ.. ورغم ذلك لم تسقط بريطانيا فى يد دول المحور، بل وسرعان ما انقلبت هزائم بريطانيا إلى انتصارات فيما بعد..
الوضع في فلسطين المحتلة يشير إلى هزائم متتالية لجيش الاحتلال ميدانيًا رغم ما ترتكبه طائرات جيش الاحتلال من مجازر وجرائم حرب، آخرها ما حدث من إلقاء قنابل فسفورية على المدنيين بعد سقوط ما يقارب 10 آلاف شهيد نتيجة تلك الغارات التي لم تتوقف على مدار ثلاثة أسابيع كاملة..
الخبراء العسكريون فى أمريكا وغيرها يؤكدون أن ما تتعرض له إسرائيل لا يمثل إلا انهزامات متتالية على جميع المستويات العسكرية والإعلامية والسياسية والمجتمعية والاقتصادية.. لدرجة أن المستشارين الأمريكيين حذروا إسرائيل من مواصلة حربها على قطاع غزة ما دامت لا تملك القدرة على تحديد أهداف ملموسة من هذه الحرب وتحقيقها على الأرض..
والسؤال الذي يشغل بال الكثير من المراقبين هو: كيف حققت المقاومة الفلسطينية كل هذه الانتصارات المتتالية المدهشة بإمكاناتها الضعيفة، والتي لا تمثل 1% من إمكانات جيش الاحتلال؟ وما السر فى تلك الهزائم المتكررة للجيش الإسرائيلى؟!!
مفاجآت المقاومة
لعل أكبر وأهم عامل من عوامل النصر في المواجهات التي نفذتها المقاومة منذ السابع من أكتوبر حتى اليوم هو عنصر المفاجأة الخاطفة.. وقد نفذته المقاومة باقتدار وكررت تنفيذه بفاعلية..
لم يتخيل المستوطنون اليهود في غلاف غزة ما حدث من اقتحام للسياج وتوغل الفلسطينيين عدة كيلومترات، ثم جمع هذا العدد الكبير من الأسرى من أجل تحقيق نقاط فوز تصلح للتفاوض فيما بعد..
تلك المفاجأة التي أربكت حسابات جيش الاحتلال ودفعت نتنياهو لاقتراف أكبر أخطائه حين أمر بتنفيذ بروتوكول هانيبال وقتل الأسرى مع خاطفيهم.. وهو ما أهاج الرأي العام عليه، وازداد هذا الهياج يومًا بعد يوم خاصةً عندما تم الإفراج عن بعض الأسيرات اللواتي فضحن ما فعلته القوات الإسرائيلية من قتل عشوائي سقط على إثره عدد من الأسرى الإسرائيليين قتلى!
ولم تمر بضعة أيام حتى قام عدد من الضفادع البشرية أقل من عدد أصابع اليد الواحدة بالوصول إلى منطقة زيكيم، ليهاجموا القاعدة الإسرائيلية الرابضة هناك، ويحققوا انتصارات نوعية.. تلك مفاجأة أخرى..
ثم المفاجأة الثالثة الكبرى والتى جاءت على إثر محاولات الاقتحام البري المتتالية على قطاع غزة فإذا بالمقاومة تنفذ عملية إنزال خلف الخطوط عند معبر إيرز الحدودي.. ويتم تدمير عدد من الآليات والدبابات وتقع قوات الاحتلال فريسة للخوف والهلع والارتباك!
مثل تلك المفاجآت المتتالية ساهمت بشكل كبير فى إضعاف الروح المعنوية لدى الجنود والقادة، وإرباك حسابات جيش الاحتلال، حتى وصل الأمر إلى يقين لدى كثير منهم أنهم إنما يواجهون أشباحًا وظلالًا لا يمكن التنبؤ بتحركاتهم المقبلة!
الأسلحة المبتكرة
جميع وسائل الإعلام راقبت عمليات الإنزال الأولى التى تمت عن طريق طائرات شراعية محلية الصنع، ذات لمسة إبداعية، استطاعت اختراق رادارات ورواصد ودفاعات الجيش الإسرائيلي في أول يوم من عملية طوفان الأقصى.. وهو ما أشار إلى التقدم النوعي الذي حققته المقاومة في المعدات والأسلحة..
استفادت المقاومة من أسلوب حرب الشوارع الذى سبق لأوكرانيا استخدامه ضد القوات الروسية، وكانت الدراجات الهوائية إحدى أهم تلك الأساليب الفعالة التى استطاعت سباق الدبابات بطيئة الحركة نوعيًا.. وقد حدث اقتحام المستوطنات فى بداية عملية طوفان الأقصى بالدراجات، وأمكن اصطياد عدد كبير من الأسرى، كارت القوة الأول لدى المقاومة، بهذه الطريقة التى تبدو بدائية وإن كانت فعالة!
ثم جاء الدور على حرب القذائف والصواريخ، لنسمع أسماء جديدة لصواريخ ومقذوفات تستخدمها المقاومة للمرة الأولى بهذه الكثافة.. فمن صواريخ قسام إلى صواريخ سجيل وحتى صواريخ عياش، وكلها أثبتت فاعلية كبيرة فى ميادين القتال، واستطاع بعضها الوصول إلى تل أبيب وعسقلان وبئر سبع إلى درجة سقوط صاروخ منها حول مفاعل ديمونة النووى.. الغريب أن عدد الصواريخ المستخدم كبير جدًا لدرجة أنه استنفد قدرات القبة الصاروخية في ملاحقته، بما تسبب فى تدمير منشآت عدة فى أماكن سقوطها! وبعض التقارير الغربية تؤكد أن المقاومة الفلسطينية تمتلك ترسانة صاروخية تقدر بنحو 30 ألف صاروخ وربما أكثر!
لم تتوقف قدرات المقاومة الفلسطينية الابتكارية عند هذا الحد، بل إنها اقتحمت مجال حرب المسيرات والطائرات الموجهة بالريموت كونترول، إما لأغراض استطلاعية أو قتالية.. وقد شهد عام 2014 باكورة إنتاج المقاومة لمثل هذه الطائرات عندما أطلقت طائرة "أبابيل1".. ثم جاءت بعدها عدة أنواع أخرى جديدة أهمها طائرة شهاب التى دخلت الخدمة عام 2021.. ثم طائرة الزواري الاستطلاعية التي أثبتت فاعلية كبيرة خلال عمليات طوفان الأقصى..
التقارير الغربية تشير إلى عدد كبير من الأسلحة والمعدات والذخائر والصواريخ تمتلكها المقاومة الفلسطينية وأكثرها مخبأ في شبكة أنفاق تمتد لعشرات الأميال!!
أنفاق الهلاك
بعد الضربة الموجعة التي تلقتها إسرائيل يوم السابع من أكتوبر، جاء القرار باعتزامها اقتحام غزة للقضاء على المقاومة وتدمير الأنفاق.. ثم إنها الآن تقف حائرة مترددة لا تعرف كيف تقتحم غزة ولا كيف يمكنها تدمير شبكة الأنفاق الجهنمية!
على مدار 10 سنوات استطاعت المقاومة الفلسطينية فى غزة حفر شبكة ضخمة من الأنفاق تمتد بطول وعرض القطاع بأكمله يقدر عددها اليوم بنحو 1300 نفق تمتد بأطوال تصل لنحو 500 كيلومتر.. بينما لم تستطع الدبابات الإسرائيلية اختراق شارع صلاح الدين الخالي فوق الأرض بطول لا يزيد عن خمسة كيلومترات بعرض القطاع!!
يقول الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي بالحكومة الإسرائيلية إن تقديراتهم لطول الأنفاق الغزاوية يصل بها إلى آلاف الكيلومترات.. ويقال إنها ثاني أطول شبكة أنفاق عالميًا بعد شبكة أنفاق كوريا الشمالية!
لهذا ترى إسرائيل صعوبة فى إيجاد طريقة لاقتحام مثل تلك الشبكة الضخمة فضلاً عن تدميرها!
بعض الخبثاء يحاولون الإيحاء لإسرائيل من طرف خفى بضرورة استخدام غاز الأعصاب المحرم دولياً من أجل القضاء على سكان الأنفاق من قوات المقاومة التي يقدر تعدادها بين 30 و40 ألف مقاتل وربما أكثر.. وهناك محاولات لرسم خرائط لتلك الشبكة العنكبوتية من الأنفاق بأجهزة رصد حديثة تستخدم فى الأصل لكشف وسبر الهزات الزلزالية..
هناك حياة كاملة تحت الأرض فى غزة، لدرجة أن الغزاويين يقولون إن تحت الأرض "غزتين"، وإن بعض الأنفاق تصل فى أعماقها السفلية حتى 70 مترًا.. فكيف ومتى تم بناؤها فى غفلة من إسرائيل؟!
جيش بلا عقيدة قتالية
لعل غياب العقيدة القتالية أو ضعفها فى نفوس الجنود الإسرائيليين يمثل أكبر العوامل لهزيمتهم على الأرض، ولهذا بدا أن معنوياتهم وحالتهم النفسية فى الحضيض، وهو ما أدى إلى انقسامات داخل الجيش نفسه على مستوى القيادة نزولًا إلى المستويات الدنيا من جيش الاحتلال..
التهرب من التجنيد الآن هو السمة الأساسية الغالبة فى تصرفات أولئك الذين يتم استدعاؤهم من الاحتياط.. وكثير من الإسرائيليين يبادرون بمغادرة إسرائيل إلى دول أخرى فرارًا من الاستدعاء.. وهذا هو الفارق الجوهري بين جيش مغتصب هارب منقسم على ذاته، وبين مقاتلين باعوا أنفسهم من أجل قضيتهم الكبرى للانتصار لضحاياهم وشهدائهم، واستعادة أراضيهم المسلوبة.
[email protected]