الأزياء التراثية في كريت.. ما مدى تأثير الأتراك العثمانيين على الموضة في الجزيرة اليونانية؟

28-10-2023 | 16:40
الأزياء التراثية في كريت ما مدى تأثير الأتراك العثمانيين على الموضة في الجزيرة اليونانية؟ أزياء تراثية
أحمد عادل

ثمة تبادل ثقافي كان قائمًا في فترة حكم العثمانيين لجزيت كريت، وهي من الفترات الثرية في مخرجاتها، والتي انعكست على المجتمع الكريتي اجتماعيًا وثقافيًا وحضاريًا، وهي فترة مهمة في تاريخ دول البحر المتوسط.

موضوعات مقترحة

كان هذا هو المحور حاضرًا لدى الدكتورة مرام محمود، مدرس شعبة الفنون التعبيرية بكلية الفنون الجميلة جامعة الأقصر، من خلال ورقتها البحثية التي تحمل عنوان "التأثير الثقافي المتبادل بين الحضارة العربية والطابع البصري للأزياء التراثية اليونانية ـ جزيرة كريت نموذجًا"، والتي تقدمت بها خلال فعاليات مؤتمر جزر البحر المتوسط في التاريخ القديم والوسيط "التأثير والتأثر" والذي عقدته مكتبة الإسكندرية.

تبدأ الدكتور مرام محمود دراستها مستشهدة بما ذكره سعد الخادم نقلاً عن ابن خلدون، وذلك حينما قال:"لقد وحد الإسلام بين عقائد تلك الشعوب، ولكن ظلت أساليب المعيشة مختلفة بين الحضري والبادي، يؤكد هذا ابن خلدون في مقدمته، ويؤكده غيره من المؤرخين والباحثين، فلا غرابة أن نجد تشابهاً بين ثياب العربي وثياب غير العربي في بلاد غير إسلامية، وهذا يحملنا على أن نرى تقارباً بين أزياء تجار البندقية مثلاً وأزياء المماليك في مصر، وبين أزياء عرب الأندلس وأزياء بعض ملوك أوروبا".

بذلك يتضح أن ثمة تقارب معرفي بين أزياء الحضارة العربية وتمثيلاتها في بلاد اليونان وخاصة جزيرة كريت، مما يعني أنه حدث الكثير من التبادل الثقافي بين بلاد المحيط المتوسط بحكم التقارب الجغرافي والديموغرافي.

وذكرت أن هذه الدراسة تسعى لإيضاح التأثير الثقافي المتبادل للأزياء التراثية بين شعوب جزر البحر المتوسط، وتحديدًا (جزيرة كريت) وبين الأزياء التراثية للعثمانيين الأتراك في أثناء حكم الإمبراطورية العثمانية، وذلك باعتبار أن الأزياء التراثية فنًا أصيلاً من الفنون التراثية، وتحاول استعراض جوانب من هذا التبادل الحضاري والمعرفي، ويسعى للتركيز على التأثير الثقافي لشكل الأزياء العربية في تلك الفترة ومدى تأثيرها على الطابع البصري للأزياء التراثية اليونانية، ورصد الملامح الشكلية والتصميمية لتلك الأزياء، باعتبارها تطوراً للأنماط القديمة، ومشابهة لبعض الجوانب الجمالية للأزياء العربية.

وذكرت ـ، الفتح الإسلامي بتغلبه على الحضارات الفارسية والبيزنطية لم يغير كثيرًا في أزيائها وطرق معيشتها، ولكنه أضاف بعض الإضافات والقطع الملبسيه على تلك الحضارات، وهذا بدوره انعكس على الطابع البصري لأزياء المجتمع الحضري في جزيرة كريت.

وتبحث الدراسة عن كيفية حدوث عملية التقارب الثقافي بين الشعب الكريتي والتركي، وإيجاد نقاط التشابه والاختلاف في الطابع البصري للأزياء التراثية في كل منهما. وامتدت الدراسة إلى بيان التأثير الثقافي للأزياء العثمانية على مثيلاتها في البلاد العربية، وخاصة بلاد الشام والعراق والجزائر.

وفقًا لعلماء الأنثروبولوجيا، تعد الأزياء التراثية والشعبية إرثًا قيمًا، وفنًا من الفنون التراثية، وجانبًا من جوانب السلوك البشري الذي تتمايز به شعوب العالم، وانعكاساً للثراء الثقافي للمجتمعات،باعتباره مظهراً من مظاهر التحضر والرقي الإنساني، إلا أنها نظرة في غالب الأمر قاصرة ومحدودة، حيث لم تتضمن العوامل الأخرى المرتبطة بتشكيل الأزياء التراثية، في إطار المتغيرات (التاريخية، والسياسية، والاجتماعية، والدينية) المؤثرة بالتأكيد على الطابع المميز للهوية البصرية للأزياء، وعليه يدرس هذا البحث التأثير الثقافي المستمد من الحضارة العثمانية، وأثره على الأزياء التراثية في جزيرة كريت.

نبذة عن السكان الأصليين وتنوع الأعراق في جزيرة كريت

تؤكد الدكتورة مرام محمود في دراستها أن ةهناك إجماع بين المؤرخين الغربيين علـى أن سـكان جـزر البحـر الأبيض المتوسط يعـود جذورهـم إلـى الشـعوب المانونية (Minoan) حيث اختلطـت دماؤهـم مـع دماء غزاتهـم مـن شـعوب شـواطئ البحـر الأبيض المتوسط المحيط، وقـام هؤلاء الغــزاة بالاستقرار علــى أراضيهــم والتزاوج منهــم.يذهــب المؤرخون إلــى أن جزيــرة كريــت بالتحديــد هــي الأكثر اتصالاً بشــعوب البحــر الأبيض المتوسط، وقـد لعبـت دورًا هامًا كهمـزة وصـل بـين حضـارات العالـم القـدامى، وخاصة كل مـن مصـر وبـلاد الشـام مـع اليونـان والرومـان.

ويؤكد الدكتــور علــي بكراكــي (وهو من جذور كريتية/ تركية) في كتابــه (تاريــخ كريــت والمهاجرين) بأنــه يرجــح اختلاط الأعراق في جزيــرة كريــت خاصــة، وأنهــا تعرضــت علــى مــدار التاريــخ لاحتلالات طويلـة مــن قبــل الــروم، العــرب، البنادقة، الأتراك وغيرهــم، بحيــث يصعـب تحديد أصـل أسـرة كريتية بدقة، ويمكن القـول بأن سـكان كريـت هــم خليــط مــن الشــعوب التــي اســتولت عليهــا وحكمتهــا،إضافة إلــى الســكان القدامـى الأصليين.

التقارب الثقافي والتبادل الحضاري بين العثمانيين وأهل كريت

شكّلت التأثيرات الثقافية التي كونتها الحضارة العثمانية على مسارها التاريخي تأثيرات واضحة على مظاهر التراث المادي لحضارة بلاد اليونان، وذلك في ظلّ الظروف السياسية الحاكمة، والتقارب الإقليمي بين الإمبراطورية العثمانية وجزر البحر المتوسط؛ وخاصة (جزيت كريت)، التي تحتلّ مكانة جغرافية مهمة بين منطقة وسط شبه الجزيرة اليونانية ومنطقة جبال الأناضول، وهو ما يعكس موقعها الاستراتيجي الفريد، ومكانتها الاقتصادية التي تتمتع بها لكونها مركزًا للتجارة القانونية، ومعبرًا إلى شرق البحر الأبيض المتوسط. خاصة بعد فتح القسطنطينية ووصول الإمبراطورية العثمانية إلى ذروة قوتها الاقتصادية والسياسية،وعنها وقعت جزيت كريت تحت سيطرة الحكم العثماني في الفترة ما بين (1648-1897)، في تلك الأثناء حدث نوع من التبادل الثقافي والتراثي بين ثقافات تلك الشعوب المتداخلة، وتكوّنت الهوية الإثنية ذات الأصول العرقية بين العثمانيين الأتراك وأهل جزيرة كريت، نظرًا للتصاهر والتزاوج والاندماج الذي حدث بينهما، ومع مرور الزمان ظهرت محددات التشابه والاختلاف بين هذه الثقافات وتلك الشعوب.

وتؤكد مدرسة الفنون الجميلة بجامعة الأقصر أن الطابع المتوارث والأنساق المتقاربة لأفراد المجتمع الكريتي ظلّ حتى بعد زوال الحكم العثماني.

وحاولت الباحثة تناول عدة موضوعات تتعلق بالمجتمع الكريتي، وتأخذ بعين الاعتبار مختلف العوامل المؤثرة على طابع الأزياء التراثية في كريت، بما يستجوب التعمق في الجانب السياسي والديني والاجتماعي.

وتذكر أنه في منتصف القرن السابع عشر وأثناء الحكم العثماني، حدث تحول اجتماعي وديني مؤثر على المجتمع الكريتي،حيث دخل عدد من الجنود العثمانيين، وموظفي الدولة من رجال الدين الإسلامي إلى الجزيرة واستوطنوا فيها،ونتج عن ذلك حالة من الاندماج والتصاهر بينهم وبين الشعب الكريتي، فكونوا أقليات مسلمة من الأتراك الكريتيين، وهو ما أظهرتها العديد من الدراسات والأبحاث ورجحت من أن أعداداً كبيرة من أبناء الروم الأرثوذوكس قد اختاروا التحول إلى الدين الإسلامي من دون إكراه عثماني، واستمر دخول قرى بالكامل في الإسلام، وتحول نسبة كبيرة من السكان تدريجيًا، وعليه ظهر الجيل الثاني من أبناء الجالية المسلمة من أصل كريتي، ويتحدثون اللهجة الكريتية.

وأدى هذا إلى تنامي صور الحياة والتعايش بين تلك الأقليات المسلمة.على الجانب الآخر كان هناك عامل هام في تكوين المجتمع الإسلامي، والذي كان له دور كبير في انتشار الإسلام، وهو دخول الطرق الصوفية،ومن أشهرها (الطريقة البكتاشية) التي رافقت الحملة العثمانية على كريت واستوطنت فيها، والطريقة "المولوية" بدءً من عام 1880.

بهذا اختلطت الأعراق وتشكّلت الهوية الإثنية المتعددة الأصول، مما أتاح تنوعًا في الهوية الثقافية، وتبادلًا في الحضارات والمعارف، وتقاربًا في أنماط التراث المادي واللا مادي، فكان من الطبيعي وجود التأثيرات الأنثروبولوجية الواضحة في تبادل الفنون التراثية، ومنها الأزياء التقليدية، واتباع القيم والتقاليد المتعارف عليها في تصميم الأزياء وحياكتها وتطريزها على نحو مشابه مع هيئة الأزياء العربية ذات الأصول الأندلسية والعثمانية، والمتأثرة بالحضارات الشرقية.

تطور الأزياء التراثية في الحضارة اليونانية

تتمتع اليونان بتاريخ سياسي طويل ومضطرب، ونتيجة لذلك فإن تاريخ الأزياء اليونانية ممتد ومتطور عبر العصور.كان التنوع في الأزياء التراثية اليونانية يقتصر على الزخارف المطرزة،وبحسب القدرة المادية للفرد أو للأسرة. مما أدى إلى التوافق مع معايير الأزياء وتوحيد واضح تمامًا في مظهر الزي داخل المجتمع اليوناني.

يمكن تقسيم تاريخ الأزياء التراثية في الجزر اليونانية - ومنها جزيرة كريت - إلى عدة فترات:(الفترة القديمة، الفترة البيزنطية، الفترة العثمانية،الفترة الحديثة). وعلى هذا تطورت الملابس اليونانية القديمة منذ قيام الحضارة المينوية في جزيرة كريت (2000-1450 ق.م) مروراً بالحضارة الميسينية (1700-1100 ق.م)، والعصر القديم (القرن الثامن إلى 480 ق.م)،ثم الفترة الكلاسيكية (480-323 ق.م). لكن خلال الفترة العثمانية فُرض نظام الإدارة المجتمعي الحازم، وتم تنظيم أزياء أهل جزيرة كريت حسب المهن والانتماءات الدينية والعرقية. أما عن تطور الأزياء الكريتية،فقد تأثر الرجال الكريتيون بأزياء القوات الإنكشارية وهيئتهم. ولكن هذه التأثيرات لم تغير كثيرًا من خصائص الأزياء الكريتية الأصلية، التي ظلت تحافظ على هويتها وتقاليدها.

خلُصت الدراسة إلى عدة نتائج منها، أن الهوية الثقافية لجزيرة كريــت تتمتع بتعدد الأصول العرقية المختلطة للوافدين، والضاربة في تاريخها الممتد عبر العصور، والذي يعود إلـى مـا قبل التاريخ، هذا ما انعكس على الهوية البصرية للأزياء التراثية الكريتية، والتي صارت متأثرة بالهوية الثقافية للأعراق المختلطة بها، وشكّل هذا أحد أوجه التقارب الثقافي والفكري، وخاصة في فترة الحكم العثماني، فقد قاربت عقيدة التوحيد بين عقائد تلك الشعوب، ولكن ظلت أساليب المعيشة مختلفة بين الحضري والبادي.

إن مصدر قوة وانتشار الثقافة التركية هو ترحيب الإمبراطورية العثمانية بالفنانيين الأوربيين، وإدراك قوة الفنون البصرية في التعريف بالثقافة والهوية التركية، لإحداث عمليات الغزو الثقافي والفكري، مما ساهم في التأثير القوي والمباشر في ثقافة الغرب، وإنما كانت الدراسة التراثية لأزياء جزيرة كريت نموذجًا، فقد حدث بالفعل التأثيرات الثقافية المتبادلة بين الحضارتين التركية والكريتية، وظهر أثره في الأزياء.

تمثلت فترة الحكم العثماني بتوحيد الهوية الثقافية على الولايات العربية والأوربية التي حكمتها، مع إضفاء الهيئة الموحدة للأزياء التقليدية. برغم بعض الاختلافات والفروقات الطفيفة بينها واختلافها في مسمياتها، إلا أنها بقيت نفس الهيئة والطابع البصري المميز.

تعد دراسة الأزياء التراثية واستنباط عوامل تكوينها، إحدى طرق قياس التفاعلات الحضارية، والتأثيرات الثقافية على الشعوب تاريخيًا وثقافيًا، واجتماعيًا، وسياسيًا، واقتصاديًا. كما أن دراسة الأزياء التراثية وتطورها من الدراسات التاريخية، والأنثروبولوجية التي تهتم بالحفاظ على التراث المادي للشعوب، وتعبر بصدق عن التحولات السياسية، والاتجاهات الاجتماعيةـ، والمتغيرات الاقتصادية المصاحبة لتطورات المجتمعات في شتى جوانبه الحياتية.

وأوصت الدراسة بضرورة الحفاظ على التراث المادي بشتى أنواعه وصوره، والمحافظة على تداول الأزياء التراثية والتقليدية باعتبارها جزء من التراث المادي للشعوب، لتصل الرسالة المعرفية والثقافية إلى الأجيال القادمة، ويدركوا أهمية وقيمة ما صنعوه الأجداد، وحافظوا عليه إلى أن يصل إلينا.

وانه الدكتورة مرام محمود دراستها بالقول:" إن الأزياء رسالة حيًة، ولغة بصرية منظورة لا مكتوبة، تروي العديد من الحكايات، والأخبار، وتحفظ التاريخ والثقافة والحضارة، ولو أضاعها الإنسان المعاصر بحجة التطوير والحداثة سيضيع الإرث، وتضيع معه كل الحضارة الإنسانية، ولن يبقى له سوى التراب".


الدكتورة مرام محمودالدكتورة مرام محمود
كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة