الحديث عن أسعار الغذاء والمنتجات الزراعية، في الداخل والخارج، أصبح تلقائيا لا يتوقف، لأسباب ومقدمات، أو بدونهما، لكن هناك حديثًا من نوع آخر لا يقل أهمية عن اقتصاديات وثمن الطعام، يتركز حول سلامة هذا الطعام وجودته، واستمرارية توافره لأسباب مناخية وسكانية وبيئية، وهو حديث الخبراء والعلماء المعنيين بمستقبل الغذاء، وهو حوار جرت وقائعه على مائدة إحدى قاعات البحث الأسبوع الماضي بالقاهرة، واستمرت 4 أيام.
وتفاقم ظاهرة الجوع في العالم، وتداخلها مع تزايد أعداد البشر، المقدر لها أن تصل إلى 9 مليارات نسمة عام 2050، كانت بالقطع أحد دواعي هذا الحوار وأهميته، فقد أصبح ضروريًا البحث عن زيادة الإنتاج من الغذاء لإطعام كل هؤلاء البشر على ظهر الكوكب، بحثًا عن الإكثار من النباتات الآمنة المعدلة وراثيا، مع تطبيق تقنيات متطورة، إنتاجًا وتسويقًا، محليًا وعالميًا.
فقد تحالفت كل من "أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا"، مع “التحالف من أجل العلم - Alliance for Science”، مع "الشبكة الوطنية لخبراء التكنولوجيا الحيوية - “NBNE، والمركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة –IKARDA "، بتنظيم ورشة عمل بعنوان "تعزيز التواصل العلمي حول تحرير الجينات والبذور المعدلة وراثيًا في مصر"، بحضور د. محمود صقر، رئيس الأكاديمية، ود.نجلاء عبدالله، منسقة الشبكة، ود.شيلا أوتشوغوجو، مديرة التحالف رئيس المركز، مع علماء أكاديميين وباحثين وإعلاميين ومزارعين، وكذلك خبراء الهندسة الزراعية المعدلة، لعرض خبراتهم وتقديم حلول لقضية المحاصيل المعدلة، أو ما يطلق عليه "تحرير الجينوم".
ولاشك أن قطاع الزراعة، مقارنة بكافة القطاعات والانشطة، يعد هو الأكثر تضررًا من تغيرات المناخ، من حيث التربة والماء والهواء، حيث تنعكس هذه المتغيرات على عمليات إنتاج الغذاء وتوفيره وجودته وكمية محصوله، ما يتطلب سرعة مواجهة هذه المتغيرات بمواجهتها والتفاعل معها اليوم وغدًا، لتصبح تداعيات أزمة المناخ هي محور اهتمام العلماء والمفكرين والمتخصصين ومتخذي القرار، والناس بكل فئاتهم وتنوعهم وأجناسهم، ومن هنا تأتي أهمية ورشة العمل.
ولعلنا نجدد إدراكنا بأن الجوع لا يعترف بحدود أو سدود، أو يفرق بين دول غنية وأخرى فقيرة، فعلى مدى السنوات القليلة الماضية، عانى المزيد من الأشخاص من الجوع وانعدام الأمن الغذائي، فقد قفز عدد الأشخاص الذين تخدمهم بنوك الطعام بنسبة 132٪ على مدى عامين اثنين فقط، طبقًا لشبكة "Global Food Banking Network" في 44 دولة حول العالم، أما في الولايات المتحدة، فقد لجأ ما لا يقل عن 60 مليون شخص - واحد من كل خمسة أمريكيين - إلى المساعدات الغذائية الخيرية في عام 2020.
إلا أن مسألة "التحرير الجيني - Gene editing"، تظل قضية مثيرة للجدل، تحمل عدة أوجه في الداخل والخارج، فما زالت تساؤلات العلماء، ومعهم الخبراء والمشرعون ومتخذو القرار، تنتظر الإجابات، حول سؤال يقول: هل النباتات المعدلة وراثيا آمنة، وما مدى ملاءمتها للصحة العامة، وسلامة "صحن" اليوم الذي يحمل مؤشرًا لسلامة صحتنا، وملاءمة "طبق الغد لسلامة الطعام للأجيال المقبلة؟.
أيضًا سعت، مبكرًا، وزارات الزراعة، والبيئة، والتعليم العالي والبحث العلمي، للاستفادة من تقنيات الزراعة الحيوية "تحرير الجينوم"، وكيف يطبق في الزراعة، لتحسين مدخلات القطاع ومخرجات إنتاجه الغذائية عن طريق "التحرير الجيني، والزراعة الرقمية، بتطوير الحَمض النووي للكائنات الحية، ويشمل البيئة، البشر والحيوان والشجر، والأخير أو الزراعة، هو موضوع ورشة العمل، والتي تستهدف بحث تغيير الجينات لتطوير أصناف نباتية منتخبة جديدة، بتطبيقات معملية فائقة التقنية، وهو جهد علمي يحمل وعدا بعلاج الأمراض الوراثية عن طريق تصحيح وإعادة تسطير الحمض النووي المصاب، وتحسين السلالات الطبيعية.
ولأن الزراعة الحيوية والمعدلة وراثيا، قضية حديثة نسبيًا، مقارنة بعلوم أخرى، فقد ولدت الضرورة للمزيد من الشرح والعرض والتوضيح لقضايا علم تحرير الجينات والبذور المعدلة وراثيًا، وسلامة وفوائد المحاصيل المعدلة وراثيًا، والإطار التنظيمي للمحاصيل المعدلة وراثيًا، وجاءت فعاليات الورشة، لبناء وتعزيز شبكات التواصل العلمي ونشر الوعي والتدريب على مهارات الحوار والعرض والتواصل للمشاركين، والتفاعل مع المزارعين وجمهور المستهلكين، ونشر المعلومات المتخصصة المعنية بالزراعة الحيوية، والإمكانات الهائلة المحتملة لهذه التقنية، وفوائدها المتوقعة لتنمية زراعية مستدامة.
وتظل عمليات تيسير سبل الوصول إلى براءات الاختراع ومراحل تطبيقها، لكافة العلوم والقطاعات، وخاصة في مجال الزراعة البيولوجية، وشقيقتها الذكية الرقمية، في حاجة إلى إزالة المعوقات أمامها، وتنشيط وتوسيع أفق البحث والتطوير، وتقليل الأعمال والموافقات الروتينية والمعوقة للوصول إلى التطبيق، وهي المرحلة الأهم، لكي نحقق الاستفادة من هذا التطور العلمي المتجدد.
المثير أننا، منذ أكثر من نصف قرن، وقبل أن يتحدث العالم عن الزراعة الحيوية، أنشأنا مركزًا للبحوث الزراعية، وهو الأكبر عربيا وإقليميا وإفريقيا، يهدف لخدمة وتطوير الزراعة، ويضم 68 كيانًا بحثيًا وأكاديميًا تشمل: 16 معهدًا و10 معامل مركزية، و23 إدارة تجارب، و19 محطة بحوث، ويسبق كل هؤلاء خبرات المزارع المصري، مرورًا بالإرشاد الزراعي الغائب، والنتيجة متواضعة للغاية، وهذا هو موضوع المقال المقبل بإذن الله "سبحانه".
[email protected]